{قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ( 104 ) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 105 ) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 106 ) وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( 107 )}[ 104 – 107] .
في الآيات هتاف بالناس بأنه قد جاءهم من ربهم الهدى والبينات ،فمن أبصر واهتدى فلنفسه ،ومن عمي عن ذلك وضل فإنما يضر نفسه .وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس حفيظا عليهم ولا مسؤولا عنهم .وتقرير رباني بأن الله تعالى يصرف الآيات القرآنية ويقلب فيها وجوه الكلام تبيانا للناس الذين يحبون أن يعلموا ويتبينوا الأمور حتى يقولوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم درست ،وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أن يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي لا إله إلا هو ،وأن يلتزم الحدود المرسومة له ،وألا يبالي بالمشركين إذا أصروا على شركهم .فلو شاء الله ما أشركوا ؛لأن في قدرته إجبارهم على الهدى ،وإنما تركهم لاختيارهم ليظهر الطيب من الخبيث ،وسليم القلب الراغب في الهدى من سيء النية المعتمد المكابرة والتكذيب ولم يجعله الله مسيطرا عليهم ولا مسؤولا عنهم .وصلة الآيات بسابقاتها وبمواقف المناظرة والجدل والإنذار واضحة ،وأسلوبها نافذ وموجه إلى العقل والقلب معا .
وواضح من الشرح المستلهم من فحواها أنها تتضمن تقريرا جديدا لما قررته آيات عديدة سبقت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها من مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبليغية والإنذارية ،ومن ترك الناس بعد ذلك لضمائرهم وتحميلهم مسؤولية مواقفهم إزاء رسالة الله بعد ذلك .
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن معنى جملة{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أنه بمعنى حتى ( يقول الكفار أنك درست وتعلمت ما تتلوه من أهل الكتاب ) .ولقد قرئت كلمة ( درست ) بفتح السين وتسكين التاء من الدروس أي بمعنى ( حتى يقولوا إن ما تتلوه قديم دارس من أساطير الأولين ) .والجمهور على أن كلمة ( درست ) من الدرس لا من الدروس .وقد خطر لنا تأويل آخر نرجو أن يكون هو الصواب وهو ( حتى يقولوا كفاك فقد بلغت وقرأت وكررت وبينت فدع الناس فيؤمن من يبصر ما فيه من هدى ويكفر من عمي قلبه ) وقد استلهمنا هذا من الجملة السابقة للجملة وهي{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} فالله يقلب وجوه الكلام ويأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغه للناس حتى يقولوا كفى فقد بلغت .وفي أساس البلاغة للزمخشري ( درست الكتاب ) كررت قراءته للحفظ .
وجملة{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ليست بمعنى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركهم بدون تبليغ ،فهذا من مهمته الأصلية وإنما هي بمعنى الأمر بعدم الاهتمام بمواقفهم .وهذا ما تكرر بأساليب عديدة سبقت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها .ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن الجملة نسخت بآيات القتال .وهذا إنما يصح إذا رافق مواقف المشركين بعد الهجرة طعن في الإسلام وأذى للمسلمين وحسب على ما شرحناه في مناسبات سابقة .
هذا ،ونظم الآية الأولى يوهم أن الكلام هو كلام النبي مباشرة ،ومثل هذا قد تكرر ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها .وقد علقنا على ذلك في سياق الآيات الأولى من سورة هود تعليقا ينسحب على هذه الآية .ومع ذلك فإنه يلحظ أن الآية الثانية احتوت كلاما ربانيا مباشرا في مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما ينطوي فيه كون الكلام الأول هو إيعاز بأن يقول ذلك .