{بَصَآئِرُ}: بينات ودلالات تدرك بها الحقائق ،ولعل المراد بها وسائل الوعي الفكري والبصيرة القلبية مما أوحى به الله إلى رسله من كتب وتعاليم ودلائل ،والبصيرة البينة والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به .
وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق( ع ) في قوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} قال: إحاطة الوهم ،ألا ترى إلى قوله:{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} ليس يعني بصر العيون{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ليس يعني من البصر بعينه{وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم ،كما يقال: فلان بصير بالشعر ،وفلان بصير بالفقه ،وفلان بصير بالدراهم ،وفلان بصير بالثياب .الله أعظم من أن يرى بالعين .
وقد جاء عن الإمام أبي الحسن الرضا( ع ) في حديثه مع أبي قرة ،قال أبو قرّة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ،فقسم الكلام لموسى( ع ) ،ولمحمد( ص ) الرؤية ،فقال أبو الحسن الرضا( ع ) فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس:{لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ}{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[ طه:110]{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [ الشورى:11] وليس كمثله شيء ،أليس محمد( ص ) ؟قال: بلى ،قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله ،وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ}{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ،ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر أما تستحون ؟ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ،قال أبو قرّة: فإنه يقول:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[ النجم:13] فقال أبو الحسن الرضا( ع ): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ،حيث قال:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [ النجم:11] يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى ،فقال:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[ النجم:18] فآيات الله غير الله ،وقد قال الله:{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة ،فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات ؟فقال أبو الحسن( ع ): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ،وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء .
{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الذي ينفذ إلى عمق الأشياء دون أي عائق من خلال لطفه ودقته ،الخبير بكل شيء فيها ،وبذلك كان علوّ شأنه وسموّه عن الأشياء ،غير مانع له عن النفاذ إليها وخبرته بكل ما تشتمل عليه من خصائص وأسرار .
الإنسان هو هدف الرسالات
{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} ولعل المراد بها وسائل الوعي الفكري والبصيرة القلبيّة ،مما أوحى به الله إلى رسله ،من كتب وتعاليم ودلائل ،في ما أراد الله للإنسان أن يفكر فيه ويتأمّله ويتعمق في دقائقه ليصل من خلاله إلى الهدى الذي يفتح له نوافذ المعرفة الفكرية والروحية ،ويقوده إلى الصراط المستقيم في مسيرته العملية في الحياة ..
وبذلك كانت قضية الرسالات قضية الإنسان في ما تستهدفه من رفع مستواه وتدبير أموره ،وتحديد دوره الطبيعي في تنظيم شؤون الكون من حوله ،ليبلغ السعادة في الدنيا ،على أساس راحة الفكر والعمل والشعور ،وينال السعادة في الآخرة على أساس ما يحصل عليه من جنة الله ورضوانه .
{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} فإذا انطلق الإنسان ،وفتح نوافذ قلبه على النور ،ونظر بعين البصيرة إلى حقائق الكون والحياة ،فإنه يحقق لنفسه الربح الكبير ..أمَّا إذا أغلق قلبه عن النور ،وأعمى عينيه عن رؤية الحقيقة فإنه لن يضرّ أحداً في ذلك ،بل يضرّ نفسه ،لأنه حرمها من آفاق الخير والسعادة والسلام ،وتركها تتخبط مثلما يتخبّط الأعمى عندما يسير في دربه ،وذلك هو ما يؤكده القرآن في قضية العمى والبصر في قوله تعالى:{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج:46] ،لأن المسألة لديه هي مسألة الإنسان من الداخل ،الإنسان ،الفكر ..العقل ..الشعور ،لا الإنسان الشكلالجسد ،لأن الله يريد للإنسان أن يتحرك بعقله ليحرّك الحياة من حوله على هداه ،ولا بد للعقل من أن ينفتح على كل نوافذ المعرفة في ما منحه الله من مفرداتها المتنوّعة التي يدركها الحسّ ،وفي ما أوحى الله به إلى رسله من رسالةٍ وكتابٍ ،ليجتمع له من هذه وذاك الفكر الصائب المنفتح الذي يتفايض بالإشراق ،وينطلق من منابع النور ،ليخطط للحياة طريقها المستقيم كما يريده الله ،وليثيرمع نفسهآفاق الروح السابحة في آفاق الله .
وهذا ما ينبغي للمنهج التربوي الإسلامي أن يحركه بتوجيه الجهد الإنساني إلى تنمية العقل وتطويره ،ليحلّق في الآفاق الشاسعة للمعرفة ،ولا يقتصر على الضيّق منها ..وليعرف أن القضية ،في جانبها السلبي والإيجابي ،هي قضيته بالذات ،في ما تمثله قضية المصير في نطاق الهدى والضلال ،تماماً كما هو الإنسان الذي يملك العينين المفتوحتين المبصرتين عندما يهتدي في طريقه ،وكما هو الإنسان الذي يملك العينين المطبقتين على الظلام العمياوين ،عندما يتخبط في الطريق .
{وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وتلك هي مهمة النبي ..فهو لم يأت ليفتح قلوب الناس على الهدى ،بالقوّة والمعجزة ،بل جاء ليقدِّم لهم الدلائل والبيّنات التي تفتح عقولهم على الحق ،بالفكر والتأمّل والإرادة الواعية المتحركة في خط الإيمان ،وتلك هي مهمّة الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان ،الكلمة الهادية ،والأسلوب المشرق ،والجوّ الهادىء الذي يوحي بالفكر والموضوعيّة ،ويقود إلى الإيمان من أقرب طريق .
وربما أريد من هذه الفقرة ،أن النبي ليس مسؤولاً عن مراقبتهم والمحافظة عليهم ولا الإشراف على أعمالهم ومحاسبتهم وثوابهم وعقابهم ،فإن الله هو الذي يتولى ذلك كله ،وليست مهمة النبي إلا إبلاغ الرسالة بكل الوسائل التي يملكها مما يبذله من جهد الدعوة والإقناع .وهذه هي مهمة الداعية في حركة الدعوة إلى الله ،بتلاوة آيات الله وإبلاغ رسالته ،وتبقى المهمةفي الدنيافي ملاحقة حركتهم في الواقع لوليّ الأمر الذي يطبّق النظام ويحافظ على الحياة في واقع الإنسان وغيره ،وفي الآخرة تكون القضية في يد الله في الحساب والعقاب والثواب .
وهذا هو الذي يحدّد للرسالة موقعها وخطوطها ،وللرسالي مهمته ودوره .