{نُصَرِّفُ الآيَاتِ}: نأتي بها بأساليب شتّى بحيث تنتقل من حالة إلى حالةٍ أخرى .قال علي بن عيسى: التصريف إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة لتجتمع فيه وجوه الفائدة .
{دَرَسْتَ}: أي: تعلّمت وقرأت ،وذلك من خلال تلاوة الآيات التي يعتبرونها دليلاً على أنك تعلمتها من اليهود ،والدرس: الانمحاء وبقاء الأثر .يقال: درس الكتاب ،ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ ،وعُبّر عن إدامة القراءة بالدرس .
إيمان الرسول لا يضيره كفر الجاحدين
{وَكَذلِكَ} كما قرأت وتلوت وحفظت مما أوحى به الله إليك ،{نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نحوّلها من فكرةٍ إلى فكرةٍ ومن أسلوب إلى أسلوب ..وتتنوّع المفاهيم ،وتختلف الصور ،وتزداد الآفاق المنطلقة مع المعرفة رحابةً وامتداداً ،وتنفتح الأفكار وتتكاثر عمقاً واتساعاً ،فإذا بالثقافة تملأ الكون ،وإذا بالرسالة تشمل الحياة ،ويتحيّر هؤلاء الذين ينكرون رسالتك ،ويبتعدون عن هداها ،من أين لمحمد( ص ) كل هذا الفكر وكلّ هذا العلم ؟ويغيب عنهم وجه الحق ،في ما يملكون من وسائل التفكير ..فهم يجهلون عمق المعرفة التي جاءهم بها ،وامتداد الأفكار التي أطلقها ،مما لا يمكن أن يكون فكر بشرٍ ،أو وحي إنسان{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} لأنهم لا يفهمون معنى أن ينزل الله وحيه على بشر منهم فيكون نبيّاً ،فيحاولون إرجاع ذلك كله إلى دراسته على اليهود .
{وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ويميّزون بين الوحي وبين كلام البشر ،فيؤمنون به ويعملون بأحكامه ،فهؤلاء هم الذي يعيشون مسؤولية المعرفة ،فينتبهون لكل ما يسمعونه ،فيفكرون فيه ،من أجل الوصول إلى القناعات الحقيقية بالأشياء .
ليقل هؤلاء ما طاب لهم القول ،ولينسبوا القرآن إلى ما تعلمه النبي من اليهود ،فليس في ذلك مشكلةٌ بالنسبة للرسول ،ما دام يؤمن بكل وجدانه وشعوره وكيانه أن القرآن وحيٌ من ربه .فإن المهمّ أن يؤمن صاحب الرسالة برسالته ،ليقف معها بكل صدقٍ وبكل قوّة ،فلا يزيده إيمان من آمن شدّة إيمان ،ولا ينقصه في ذلك كفر من كفر ،لأنه لا يستعير ثقته بقناعاته من إيمان المؤمنين ،بل من ثقته بالرسالة التي يحمل ،وهو ما يريد الله له أن يعيشه ويعزّزه في قوّة الموقف الرافض لكل ما حوله من أوهام الكفر وشبهات الضلال ،فلا يتوقف على مشارف الطرق ،بل يتقدم بكل وثوق وطمأنينة ليتابع سيره .