/م104
{ وكذلك نصرف الآيات} أي مثل ذلك التصريف والتفنن العلي الشأن ، البعيد الشأو في فنون المعاني وأفنان البيان ، الذي تراه في هذه السورة أو هذا السياق ، نصرف الآيات في سائر القرآن ، لإثبات أصول الإيمان ، والهداية لأحاسن الآداب والأعمال ، فنحولها من نوع إلى نوع ومن حال إلى حال ، مراعاة لتفاوت العقول والأفهام ، ولاختلاف استعداد الأفراد والأقوام .
{ وليقولوا درست} المعنى العام للدرس تكرار المعالجة وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به أو يصل إلى الغاية منه ، يقال درس الشيء كرسم الدار وآثارها يدرس ( من باب قعد ) إذا عفا وزال بفعل الريح أو تتابع المشي عليه وغير ذلك من الأسباب فهو دارس ، ودرسته الريح أو غيرها ، ودرس اللابس الثوب درسا أخلقه وأبلاه فهو دريس ، ودرسوا الطعام أي القمح داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه ، ودرس الناقة درسا راضها .ودرس الكتاب والعلم يدرسه درسا ودراسة ، ودارسه مدارسة – من ذلك قال في اللسان عقب نقله كأنه عانده حتى انقاد لحفظه ثم قال:ودرست الكتاب أدرسه أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه علي من ذلك ، والدرسة بالضم الرياضة .ففي كل ما ذكر معنى تكرار العمل ومتابعته حتى بلوغ الغاية منه .قرأ الجمهور ( درست ) فعلا ماضيا للمخاطب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( دارست ) للمشاركة وهي مروية عن ابن عباس ومجاهد .وقرأ ابن عامر ويعقوب ( درست ) بفتح السين وسكون التاء وهي مروية عن أبي وابن مسعود وابن الزبير والحسن .والتعليل في قوله:{ درست} خاص معطوف على تعليل عام يعرف من القرينة والمعنى:وكذلك نصرف الآيات على أنواع شتى ليهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام ، وليقول هؤلاء المشركون الجاحدون ، المعاندون منهم والمقلدون ، قد درست من قبل يا محمد وتعلمت ، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت ، وقد قالوا مثل هذا إفكا وزورا ، وزعموا أنه تعلم من غلام رومي كان يصنع السيوف بمكة قيل إنه كان يختلف إليه كثيرا ، وذلك قوله تعالى:{ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [ النحل:103] أو ليقولوا دارست العلماء وذاكرتهم ، وجئتنا بما تلقيته عنهم ، أو درست هذه العقائد ومحيت ، بمعنى أنها أساطير قديمة قد رثت وخلقت ، وهاتان القراءتان ، في معنى قوله تعالى:{ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا} [ الفرقان:4 ، 5] وأظهر منه في تأييد القراءة الأخيرة قوله تعالى حكاية عن قوم هود في الشعراء{ قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين} [ الشعراء:136-138] .وحكمة القراءات الثلاث حكاية أقوال ثلاث فئات من المشركين ، وهو من إيجاز القرآن العجيب في الكلم والرسم .
قيل إن اللام في قوله:« وليقولوا درست » للعاقبة والصيرورة أي ليكون عاقبة تصريف الآيات أن يقول الراسخون في الشرك مثل هذا القول مكابرة وعنادا ، وجحودا وإلحادا ، وقيل إن هذا تعليل صحيح يؤيده قوله تعالى:{ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} [ البقرة:26] ونقول ليس معنى يضل به كثيرا أن الإضلال من المقاصد التي أنزل لأجلها ، أو التي من شأن القرآن في نفسه أن يكون علة وسببا لها ، وإنما معناه أنه يترتب على وجوده إعراض فاسدي الفطرة عنه ، وضلالهم بسبب الكفر به ، فهو بمعنى العاقبة التي تترتب على إنزاله ، كما يترتب على جميع المنافع التي خلقها الله للناس في الأنفس والآفاق ، مضار كثيرة من سوء الاستعمال .
{ ولنبينه لقوم يعلمون} أي ولنبين هذا القرآن المشتمل على ما ذكر من تصريف الآيات ، الذي يقول فيه بعض المكابرين إنه أثر درس واجتهاد ، أو لنبين التصريف المفهوم من « نصرف » لقوم يعلمون بالفعل أو بالاستعداد ، الذي لا يعارضه تقليد ولا عناد ، ما تدل عليه الآيات من الحقائق ، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة .فعلم من عطف هذا على ما قبله أن الذين يقولون للرسول إنك درست أو دارست حتى جئت بهذه الآيات المنزلة ، إذ كانت أثر الدرس أو المدارسة ، هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات ، التي صرفها الله على أنواع و أشتات ، أو لم يفقهوا سرها ، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا بأسرها ، وأما الذين يعلمون مدلولاتها ، وحسن عاقبة الاهتداء بها ، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن ، أو ما في التصريف من أنواع البيان ، المؤيد بالحجة والبرهان .
وللمفسرين في الآية أقوال أخرى منقوضة منها:قول بعضهم إن المراد بدارست قارأت اليهود فحفظت عنهم بعض معاني هذه الآيات ، وينهض هذا بما هو معلوم على سبيل القطع من نزول هذه السورة في أوائل البعثة بمكة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود إذ لم يكونوا من أهلها ، ولو تلقى عنهم كتبهم بالمدارسة لما سكتوا عن بيان ذلك لمشركي مكة حين أرسلوا إليهم يسألونهم عنه ولغيرهم من قومهم ومن المشركين ، ولأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم مهيمن على كتبهم ( 51:4 ) قد بين أن ما عندهم محرف وفيه زيادة عما جاء به أنبياؤهم ونقص بما نسوا منه كما بينا ذلك في تفسير أول سورة آل عمران وتفسير النساء ( 44:4 ) والمائدة ( 14:5 ) – فيراجع في الجزأين 5 و 6 من التفسير – كما أنه بين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب ( 16:5 ) وهو من جهة أخرى أتم وأكمل لأنه خاتم النبيين ، الذي أكمل الله على لسانه الدين .
ومنها:قول آخرين إن « ليقولوا دارست » على النفي أي لئلا يقولوا ذلك ، قاله ابن جرير ونقله الرازي عن القاضي من المعتزلة ورده أشد الرد وله الحق ، ولكنه غير مصيب في جعل العبارة مما يحتج به على الجبر أو القدر .
ومنها:قول الرازي أن الكفار كانوا يقولون في نزول القرآن نجوما:إن محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ولو كانت وحيا لجاء بها دفعة واحدة كما جاء موسى بالتوراة دفعة واحدة ومن ثم كان تصريف الآيات حالا فحالا هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن القرآن نتيجة مدارسة ومذاكرة مع الآخرين .ونقول إن هذا الكلام رأي ملفق لا يصح به في جملته نقل ، فالعرب لم تكن تعتقد أن موسى جاء بالتوراة جملة واحدة من عند الله ولا أهل الكتاب وإنما تلك الوصايا العشر فقط ، وسائر أحكام التوراة نزلت متفرقة بحسب الوقائع في أمكنة مختلفة كالقرآن ، وتلك الوصايا لا تبلغ عشر هذه السورة{ الأنعام} التي نزلت جملة واحدة كما أثبتنا ذلك في أول تفسيرها بل لا تزيد على نصف العشر إلا قليلا .ولعل كثرة ما فيها من الآيات البينات على أصول الدين هو الذي حمل بعض المفسرين على القول بأن معنى ( وليقولوا درست ) ولئلا يقولوا درست ، فإن المجيء بهذه الآيات الكثيرة المنتظمة للحجج والبراهين المختلفة دفعة واحدة من شأنه أن يمنع المنصف من دعوى اقتباس القرآن بالمدارسة مع الآخرين ، وأين هؤلاء المدارسون ؟ ولم يظهر من أحد منهم ولا من الرسول نفسه في مدة أربعين سنة شيء من هذه المعارف العالية .والبلاغة المعجزة ، كلا إنما قالوا ذلك جحودا ومكابرة ، وربما نطق به بعضهم بادي الرأي من غير تفكر في مخالفته لما هو معلوم بالضرورة عندهم من كونه أميا وكونه احتج على جمهورهم في ذلك بمثل قوله تعالى:{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} [ يونس:16] وقوله:{ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [ العنكبوت:48] وهذه تدل على أنهم لم يرتابوا وإنما هي المكابرة .