نصرّف الآيات: نأتي بها متواترة حالا بعد حال ،مفسرين لها في كل مقام بما يناسبه .
درس الكتابَ والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة: قرأه وتعلمه .
يتجه الخطاب هنا إلى الرسول الكريم ،فيتحدث عن تصريف الآيات على مستوى لا يمكن أن يأتي به النبي الأُمّيّ من عنده .وفي ذلك إشارة إلى أن المشركين يعلمون حق العلم أن النبيّ محمداً عاش بينهم ولم يدخل مدرسة ،ولم يجلس إلى معلمومع هذا فهم يعاندون فيقولون: إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب .
كيف هذا وما كان شيء من حياتك يا محمد خافياً عليهم ،لا قبل الرسالة ولا بعدها !وكيف هذا وليس مِن أهل الكتاب من يعلم شيئاً على هذا المستوى !إن كتب أهل الكتاب موجودة قائمة ،والمسافة شاسعة بين ما فيها وما في هذا القرآن الكريم .
ولا نريد أن نقول في هذه الكتب التي بين أيديهم شيئا ،لكن علماءهم وكتابهم انتقدوها وبيّنوا كثيرا من زيفها وتحريفها .وقد صدر حديثا كتاب لعالم وطبيب فرنسي كبير هو الدكتور «موريس بوكاي » جعل اسمَه «القرآن والتوراة والإنجيل والعلم » .وفيه بيّن هذا العالم الكبير بعد دراسته التحليلية أن القرآن لا يتناقض مع الحقائق العلمية والتاريخية ،خلافاً للتوراة والإنجيل .وهو يقول: «لقد اعتبر الإسلام دائماً أن هناك اتفاقاً بين معطيات كتابه المقدس والواقع العلمي .ولم تكشف دارسة نص القرآن في العصر الحديث عن الحاجة إلى إعادة النظر في هذا .وسوف نرى فيما بعد أن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية .وهي وقائع كثيرة جدا ،خلافاً لقلّتها في التوراة .وليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية ،وبين تعدّد الموضوعات ذات السمة العلمية وكثرتها في القرآن ...
وعلى سبيل المثال ،نحن نجهل التاريخ التقريبي لظهور الإنسان على الأرض ...لكنّنا لا نستطيع علمياً قبول صحة نص سفر التكوين الذي يورد أنساباً وتواريخ تحدّد أصل ظهور الإنسان ( خلق آدم ) بحوالي 37 قرنا قبل المسيح ...هذا فيما نستطيع أن نطمئن إلى أنه لن يمكن أبداً إثبات أن الإنسان قد ظهر على الأرض منذ 5736 سنة كما يقول التاريخ العبري في 1975 .وبناء على ذلك فإن معطيات التوراة الخاصة بقدم الإنسان غير صحيحة .
وإن الدارسة التي نقدمها الآن تختص بما تُنبئنا به الكتب المقدسة فيما يتعلق بالظاهرات الطبيعية المتنوعة الكثيرة ،والتي تحيطها تلك الكتب بقليل أو بكثير من التعليقات والشروح .ولا بد من الملاحظة أن الوحي القرآني غني جداً في تعدُّد هذه المواضيع ،وذلك على خلاف ندرتها في العهدين القديم والجديد .
لقد قمتُ أولاً بدارسة القرآن الكريم ،وكان ذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة ،باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث .وكنت أعرف قبل هذه الدراسة ،وعن طريق الترجمات ،أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية ،ولكن معرفتي وجيزة .وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث .
وبنفس الموضوعية قمتُ بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل: أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول ،أي سِفر التكوين ،حيث وجدت مقولاتٍ لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا .
وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة ،ونعني بها شجرة أنساب المسيح .ذلك أن نص إنجيل متّى يناقض بشكل جلي إنجيلَ لوقا .إذ أن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدَم الإنسان على الأرض .غير أن وجود هذه الأمور المتناقضة وتلك التي لا يحتملها التصديق ،وتلك الأخرى التي لا تتفق والعلم ،لا يبدو لي أنها تستطيع أن تضعِف الإيمان بالله .ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر .ولا يستطيع أحدا أن يقول كيف كانت النصوص الأصلية ،وما نصيب الخيال والهوى في عملية تحريرها ،أو ما نصيب التحريف المقصود من قِبَل كتبةِ هذه النصوص ،أو ما نصب التعديلات غير الواعية التي أدخلت على الكتب المقدسة .
إن ما يصدمنا حقاً في أيامنا هذه أن نرى المتخصصين في دراسة النصوص يتجاهلون ذلك التناقض والتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة ،أو نراهم يكشفون عن بعض نقاط الضعف ليحاولوا التستّر عليها ،مستعينين في ذلك ببهلوانيات جدلية .
وسنقدم في هذا الكتاب أمثلة لاستخدام وسائل التستّر على التناقض أو على أمر بعيد التصديق ،مما يسمونه «صعوبةً » استحياءً منهم ،وأنه كان ناجحا في كثير من الأحيان .وهذا ما يفسر لنا كيف أن كثيراً من المسيحيين ظلوا يجهلون نقاط الضعف الخطيرة في كثير من المقاطع في العهد القديم وفي الأناجيل .وسيجد القارئ ،في الجزئين الأول والثاني من هذا الكتاب أمثلة صحيحة في ذلك .
أما الجزء الثالث فسيجد فيه القارئ أمثلة توضيحية لتطبيق العلم على دارسة أحد الكتب المقدسة ،وهو تطبيق لم يكن يتوقعه الإنسان .كما سيجد القارئ في ذلك بياناً لما قد جاء به العلم الحديث الذي هو في متناول كل يد ،من أجل فهمٍ أكملَ لبعض الآيات القرآنية التي ظلت حتى الآن مستغلقة أو غير مفهومة .ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين والعلم توأمان متلازمان .فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءاً لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام .والواقع أن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية .تلك الحضارة التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا .إن التقدم الذي تمّ اليوم ،بفضل المعارف العلمية ،في شرح بعض ما لم يكن مفهوما ،أو بعض ما قد أسيء تفسيره حتى الآن ،من آيات القرآن ،ليشكّل قمةَ المواجهة بين العلم والكتب المقدسة » .
هذه مقتطفات مختصرة جداً من مقدمة هذا الكتاب الرائع الذي يقدّم لنا شهادة صادقة صادرة عن دراسة وبحثٍ بأمانة وحياد وشجاعة بدون تحيز ولا تعصب .
{وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
وبمثل هذا التنويع في عرض الدلائل الكونية ،نعرض آياتنا في القرآن منّوعة مفصّلة ،لنقيم الحجة بها على الجاحدين ،فلا يَجِدوا إلا اختلاق الكذب ،فيتهموك بأنك تعلّمت من الناس لا من الله .
هكذا بين سبحانه لرسوله أن الناس في شأن القرآن فريقان: فريق فسدت فطرتهم ولم يبقَ لديهم استعداد لهدية ،ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات ،ومن ثم كان نَصيبهم منه الجحود والإنكار .وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه ...من ثَم أمر رسوله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه ،وأن يُعرض عن المشركين ،ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم .
قراءات:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست » وابن عامر ويعقوب «درستْ » .بصيغة الماضي .