القول في تأويل قوله تعالى:قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قال أبو جعفر:وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين نبَّههم بهذه الآيات من قوله:(22)إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىإلى قوله:وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُعلى حججه عليهم, وعلى سائر خلقه معهم, (23) العادلين به الأوثان والأنداد, والمكذبين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم من عند الله= قل لهم يا محمد:"قد جاءكم "، أيها العادلون بالله،والمكذبون رسوله="بصائر من ربكم "، أي:ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر .
* * *
= وهي جمع "بصيرة ",ومنه قول الشاعر:(24)
حَــمَلُوا بَصَـائِرَهُمْ عَـلَى أَكْتَـافِهِمْ
وَبَصِــيرَتِي يَعْـدُو بِهَـا عَتَـدٌ وَأَى (25)
يعني بالبصيرة:الحجة البينة الظاهرة ، (26) كما:-
13703- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله:"قد جاءكم بصائر من ربكم "قال:"البصائر "الهدى، بصائر في قلوبهم لدينهم, وليست ببصائر الرؤوس . وقرأ:فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[سورة الحج:46] وقال:إنما الدين بصره وسمعه في هذا القلب . (27)
13704- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة:"قد جاءكم بصائر من ربكم "، أي بينة .
وقوله:"فمن أبصر فلنفسه "يقول:فمن تبين حجج الله وعرَفها وأقرَّ بها، وآمن بما دلّته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به, فإنما أصاب حظ نفسه، ولنفسه عمل, وإياها بَغَى الخير="ومن عمي فعليها "، يقول:ومن لم يستدلّ بها، ولم يصدق بما دلَّته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنـزيله, ولكنه عمي عن دلالتها التي تدل عليها, يقول:فنفسَه ضر، وإليها أساء لا إلى غيرها .
* * *
وأما قوله:"وما أنا عليكم بحفيظ "، يقول:وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم, وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم, والله الحفيظ عليكم، الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم . (28)
----------------------
الهوامش:
(22) في المطبوعة والمخطوطة:(( لهذه الآيات )) باللام ، وصواب السياق يقتضي ما أثبت .
(23) في المطبوعة (( وعلى تبيين خلقه معهم )) ، وهو كلام لا معنى له ، وهو في المخطوطة سيئ الكتابة ، وصواب قراءته ما أثبت . قوله:(( وعلى سائر خلقه معهم )) ، معطوف على قوله:(( عليهم )) قبله .
وقوله:(( على حججه )) ، السياق:(( أن يقول لهؤلاء الذين نبههم بهذه الآيات ... على حججه عليهم )).
وقوله بعد:(( العادلين به الأوثان )) ، صفة لقوله آنفًا (( أن يقول لهؤلاء الذين نبههم بهذه الآيات .. . ))
(24) هو الأسعر الجعفي .
(25) الأصمعيات:23 ( وطبعة المعارف:157 ) ، والوحشيات رقم:58 ، المخصص 1:160 ، اللسان ( بصر ) ( عتد ) ( وأي ) . وغيرها كثير . وهي من قصيدة عير فيها إخوته لأبيه ، وذلك أن أباه قتل وهو غلام ، فأخذ إخوته لأبيه الدية فأكلوها ، فلما شب الأسعر ، أدرك بثأر أبيه ، وقال قبله:
ولقـد عَلِمْـتُ ، عَـلَى تَجَشُّمِيَ الرَّدَى
أَنَّ الحُـصُونَ الخَـيْلُ لا مَـدَرُ القُرَى
وفسر أصحاب اللغة (( البصيرة )) هنا بأنها الدم ما لم يسل ، يعني:دماءهم في أبدانهم ، يعير أخوته . وقال غيرهم:(( البصائر )) دم أبيهم ، يقول:تركوا دم أبيهم خلفهم ولم يثأروا به ، وطلبته أنا . و (( عتد )) ( بفتح العين ، وفتح التاء أو كسرها ):الفرس الشديد التام الخلق ، السريع الوثبة ، المعد للجري ، ليس فيه اضطراب ولا رخاوة . و (( الوأي )) ، الفرس السريع الطويل المقتدر الخلق .
(26) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1:203
(27) (( الدين )) ( بتشديد الياء وكسرها ):المتدين ، صاحب الدين .
(28) انظر تفسير (( الحفيظ )) فيما سلف 8:562 .