{لاَّ تُدْرِكُهُ}: الإدراك: اللحاق ،يقال: أدرك فلان فلاناً إذا لحقه ،وأدرك الطعام: نضج ،وأدرك الزرع: بلغ منتهاه ،وأدرك الغلام: بلغ ولحق حال الرجولية ،وأدركته ببصري: لحقته ببصري ،وتدارك القوم: تلاحقوا ،ولا يكون الإدراك بمعنى الإحاطة لأن الجدار محيطٌ بالدار وليس بمدرك لها .
{الأبصار}: جمع بصر وهي الحاسة التي تقع بها الرؤية .
{اللَّطِيفُ}: إذا وصف به الجسم فضدّ الجثل وهو الثقيل .يقال: شعرٌ جثل أي: كثير .ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأمور الدقيقة ،وقد يعبّر باللطائف عما لا تدركه الحاسّة ،ويصحّ أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفته بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم .
وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا( ع ): « ..إنما قلنا اللطيف ،للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف ،أولا ترىوفقك الله وثبتكإلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان لصغره ،الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم ،فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرةً مع صفرة وبياضاً مع خضرة وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمامة خلقها ولا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا ،علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع من شيء .
وقد جاء في الحديث المروي عن الإمام الرضا( ع ): «وأما اللطيف فليس على قلة وقضافة وصغر ،ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك ،كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه ،وقوله: يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقاً متلطفاً لا يدركه الوهم ،فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحدّ أو يحد بوصف واللطافة منا الصغر والقلة فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى
{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} لا تبلغه ولا تصل إليه أبصار الناس ،لأن الله ليس جسماً لتبصره العيون ،وقد ذكرنا في بعض مباحث هذا التفسير ،كيف يذهب بعض المفكرين من المسلمين إلى إمكان رؤية الناس لله يوم القيامة انطلاقاً من الظواهر القرآنية ،وكيف يردّ عليهم مفكرون آخرون باستحالة ذلك ،وبتوجيه الظواهر القرآنية بما لا يتنافى مع ذلك من حمل التعابير القرآنية على أسلوب الاستعارة والكناية والمجاز ،على ما جرى عليه القرآن من التحدّث عن القضايا المعنوية بالطرق الحسّية ..
وربما كانت هذه الفقرة دليلاً على ذلك في مدلولها الذي ينفي إدراك الأبصار له ،وإن كان من الممكن أن تكون واردةً على سبيل الكناية عن علوّه وعظمة شأنه بالمستوى الذي لا يمكن أن تحيط به الأبصار ،مهما بلغت درجة الرؤية لديها{وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} لأن الأشياء كلها خاضعةٌ له ،حاضرةٌ لديه ،وبذلك فإنه يدركها ويحيط بها مهما كانت دقيقةً وبعيدة ،ولعل التعبير بقوله:{وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} مع أن المقصود هو إدراكه للأشياء التي تدركها الأبصار ،للإيحاء بإحاطته بكل شيء تحيط به ،لأن الأبصار إذا كانت تحت إدراكه فإنه يدرك كل ما تدرك ،ويصل إلى كل ما تصل إليه .