وقوله تعالى:( لا تدركه الأبصار ) فيه أقوال للأئمة من السلف:
أحدها:لا تدركه في الدنيا ، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن ، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت:من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب . وفي رواية:على الله فإن الله يقول:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) .
رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي الضحى ، عن مسروق . ورواه غير واحد عن مسروق ، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة من غير وجه .
وقد خالفها ابن عباس ، فعنه إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين . والمسألة تذكر في أول "سورة النجم "إن شاء الله تعالى .
وقال ابن أبي حاتم:ذكر محمد بن مسلم ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا يحيى بن معين قال:سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) قال:هذا في الدنيا . قال:وذكر أبي ، عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك .
وقال آخرون:( لا تدركه الأبصار ) أي:جميعها ، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة .
وقال آخرون ، من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآية:إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة . فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك ، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله . أما الكتاب ، فقوله تعالى:( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة:22 ، 23] ، وقال تعالى عن الكافرين:( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين:15] .
قال الإمام الشافعي:فدل هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى .
وأما السنة ، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأنس ، وجرير ، وصهيب ، وبلال ، وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم:أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات ، وفي روضات الجنات ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين .
وقيل:المراد بقوله:( لا تدركه الأبصار ) أي:العقول . رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين ، عن الفلاس ، عن ابن مهدي ، عن أبي الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة أنه قال ذلك . وهذا غريب جدا ، وخلاف ظاهر الآية ، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقال آخرون:لا منافاة بين إثبات الرؤية لله تعالى في الآخرة ونفي الإدراك ، فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم . ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ، ما هو؟ فقيل:معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى .
وقال آخرون:المراد بالإدراك الإحاطة . قالوا:ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم ، قال الله تعالى:( ولا يحيطون به علما ) [ طه:110] ، وفي صحيح مسلم:"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "ولا يلزم من هذا عدم الثناء ، فكذلك هذا .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) قال:لا يحيط بصر أحد بالملك .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، حدثنا أسباط عن سماك ، عن عكرمة ، أنه قيل له:( لا تدركه الأبصار ) ؟ قال:ألست ترى السماء؟ قال:بلى . قال:فكلها ترى؟
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) هو أعظم من أن تدركه الأبصار .
وقال ابن جرير:حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عرفجة ، عن عطية العوفي في قوله تعالى:( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) [ القيامة:22 ، 23] ، قال:هم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، وبصره محيط بهم . فذلك قوله:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) .
وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث رواه ابن أبي حاتم هاهنا ، فقال:
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث السهمي حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) قال:"لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ، ما أحاطوا بالله أبدا "
غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم .
وقال آخرون في قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) بما رواه الترمذي في جامعه ، وابن أبي عاصم في كتاب "السنة "له ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن مردويه أيضا ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الحكم بن أبان قال:سمعت عكرمة يقول:سمعت ابن عباس يقول:رأى محمد ربه تبارك وتعالى . فقلت:أليس الله يقول:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) الآية؟ فقال لي:"لا أم لك ذلك نوره ، الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء "وفي رواية:"لا يقوم له شيء "
قال الحاكم:صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور - أو:النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "
وفي الكتب المتقدمة:إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية:يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . أي:تدعثر . وقال تعالى:( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) [ الأعراف:143] ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة . يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء . فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه - تعالى وتقدس وتنزه - فلا تدركه الأبصار; ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه ، فإن ذلك غير ممكن للبشر ، ولا للملائكة ولا لشيء .
وقوله:( وهو يدرك الأبصار ) أي:يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه; لأنه خلقها كما قال تعالى:( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [ الملك:14] .
وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين ، كما قال السدي في قوله:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) لا يراه شيء وهو يرى الخلائق .
وقال أبو العالية في قوله تعالى ( وهو اللطيف الخبير ) اللطيف باستخراجها ، الخبير بمكانها . والله أعلم .
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه:( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ) [ لقمان:16] .