الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث ،ومن أجل إثبات حاكمية الله وإِحاطته بكل شيء وحفاظه على كل شيء ،وكذلك لإِثبات أنّه يختلف عن كل شيء ،تقول: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) أي أنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم ،ويتعامل معهم بمقتضى لطفه .
في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شيء ومربيه وملجأه لابدّ أن يتصف بهذه الصفات .
كما أنّ الآية تقول: إِنّه يختلف عن جميع الأشياء في العالم ،لأنّ أشياء العالم بعضها يَرى ويُرى ،كالإِنسان ،وبعضها لا يَرى ولا يُرى كصفاتنا الباطنية ،وبعض آخر يُرى ولا يَرى ،كالجمادات ،فالوحيد الذي لا يُرى ولكنّه يَرى كلَّ شيء هو الله الواحد الأحد .
بحوث
هنا نشير إِلى بضع نقاط:
1لا تدركه الأبصار:
تثبت الأدلة العقلية أنّ الله لا يمكن أن يرى بالعين ،لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إِلاّ الأجسام ،أو على الأصح بعضاً من كيفيات الأجسام ،فإِذا لم يكن الشيء جسماً ولا كيفية من كيفيات الجسم ،لا يمكن أن تراه العين ،وبتعبير آخر ،إِذا أمكنت رؤية شيء بالعين ،فلأن لهذا الشيء حيزاً واتجاهاً وكتلة ،في حين أنّ الله أرفع من أن يتصف بهذه الصفات ،فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شيء .
في كثير من الآيات ،وعلى الأخص في الآيات التي تشير إِلى بني إِسرائيل وطلبهم رؤية الله ،نجد القرآن ينفي بكل وضوح إِمكان رؤية الله ( سوف يأتي شرح ذلك في تفسير الآية 143 من سورة الأعراف إِن شاء الله ) .
ومن العجيب أنّ كثيراً من أهل السنة يعتقدون أنّ الله سيرى يوم القيامة ،ويعبر صاحب تفسير المنار عن ذلك بقوله: هذا من مذاهب أهل السنة والعلم بالحديث{[1266]} .
والأعجب من ذلك أنّ بعض المحققين المعاصرين الواعين يميلونأيضاًإِلى هذا الاتجاه ويصرون عليه !
أمّا الواقع فإِنّ بطلان هذه الفكرة إِلى درجة من الوضوح بحيث لا يستوجب نقاشاً ،لأنّ الأمر لا يختلف بين الدنيا والآخرة ( إِذا قلنا بالمعاد الجسماني ) ،إِنّ الله فوق المادة ،ولا يتبدل يوم القيامة إِلى وجود مادي ،ولا يخرج من لا محدوديته ليصبح محدوداً ،ولا يتحول في ذلك اليوم إِلى جسم أو إِلى كيفية من كيفيات الجسم !وهل الأدلة العقلية على عدم إِمكان رؤية الله في الدنيا هي غيرها في الآخرة » ؟أم هل يتغير حكم العقل بهذا الشأن يومذاك ؟!
ولا يمكن تبرير هذه الفكرة بأنّ من المحتمل أن يصبح للإِنسان في الآخرة نوع آخر من الرؤية والإِدراك ،لأنّ هذه الرؤية والإِدراك إِذا كانت في الآخرة فكرية وعقلانية ،فإنّنا في هذه الدنيا أيضاً نشاهد الله وجماله بعين القلب وقوة العقل ،أمّا إِذا كانت الرؤية هي نفسها التي نرى بها الأجسام ،فإِنّ رؤية الله بهذا المعنى مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء .
وبناء على ذلك فإِنّ القول بأنّ الإِنسان لا يرى الله في هذه الدنيا ،ولكن المؤمنين يرونه يوم القيامة غير منطقي وغير مقبول .
إنّ ما حمل هؤلاء على الذهاب إِلى هذا المذهب والدفاع عنه هو وجود أحاديث في كتبهم المعروفة تقول بإِمكان رؤية الله يوم القيامة ،ولكن أليس من الأفضل أن نقول ببطلان هذا الرأي بالدليل العقلي ،ونحكم باختلاق أمثال هذه الرّوايات وعدم اعتبار الكتب التي أوردت مثل هذه الرّوايات ،( اللهم إِلاّ إِذا قلنا أنّ المقصود من هذه الرؤية هي الرؤية القلبية ) هل يصح أن نجانب حكم العقل والحكمة من أجل أمثال هذه الأحاديث ؟!
أمّا الآيات القرآنية التي يبدو منها لأوّل وهلة أنّها تدل على رؤية ،مثل ( وجوه يومئذ ناضرة إِلى ربّها ناظرة ){[1267]} و( يد الله فوق أيديهم ){[1268]} فإِنّها من باب الكناية والرمز ،إِنّنا نعلم أنّ أية آية قرآنية لا يمكن أن تخالف حكم العقل ومنطق الحكمة .
والملفت للنظر أنّ الأحاديث والرّوايات الواردة عن أهل البيت( عليهم السلام ) تستنكر هذه العقيدة الخرافية أشد استنكار ،وتنتقد القائلين بها أشد انتقاد ،من ذلك أنّ أحد أصحاب الإِمام الصّادق( عليه السلام ) واسمه ( هشام ) يقول: كنت عند الإِمام الصّادق( عليه السلام ) فدخل عليه معاوية بن وهب ( وهو من أصحاب الإِمام أيضاً ) وسأله قائلا: يا بن رسول الله ،ما قولك في ما جاء بشأن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قد رأى الله ،فكيف رآه ؟وكذلك في الحديث المروي عنه أنّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: إِنّ المؤمنين في الجنّة يرون الله .فبأي شكل يرونه ؟فتبسم الإِمام الصّادق ابتسامة ألم ،وقال: «يا معاوية بن وهب !ما أقبح أن يعيش المرء سبعين أو ثمانين سنة في ملك الله ،ويتنعم بنعمه ،ثمّ لا يعرفه حق المعرفة يا معاوية ،إنّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم ير الله رأي العين أبداً ،إِنّ المشاهدة نوعان: المشاهدة القلبية ،والمشاهدة البصرية ،فمن قال بالمشاهدة القلبية فقد صدق ،ومن قال بالمشاهدة البصرية فقد كذب وكفر بالله وبآياته فإِنّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: من شبه الله بالبشر فقد كفر »{[1269]} .
وفي ( أمالي الصدوق ) بإِسناده إِلى إِسماعيل بن الفضل قال: سألت الإِمام
الصّادق( عليه السلام ) عن الله تبارك وتعالى ،وهل يرى في المعاد ؟فقال: «سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ،يا ابن الفضل ،إنّ الأبصار لا تدرك إِلاّ ما له لون وكيفية ،والله تعالى خالق الألوان والكيفية »{[1270]} .
من الجدير بالانتباه أنّ هذا الحديث يؤكّد كلمة «لون » ونحن اليوم نعلم أنّ الجسم بذاته لا يرى مطلقاً ،وإِنما الذي نراه هو لونه ،فإِذا لم يكن للجسم أي لون فلن يرى .
( في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحث بهذا الشأن في تفسير الآية ( 46 ) من سورة البقرة ) .
2الله خالق كل شيء
بعض المفسّرين من أهل السنة ،ممن يذهب إِلى الجبر يتخذ من قوله تعالى ( خالق كل شيء ) دليلا على صحة مذهبهم في الجبر ،فيقول: إِنّ أعمالنا وأفعالنا من «اشياء » هذا العالم أيضاً ،لأنّ كلمة «شيء » تطلق على كل ذي وجود ،مادياً كان أم غير مادي ،وسواء كان من الذوات أم من الصفات ،وعليه عندما نقول: إِنّ الله خالق كل شيء ،لابدّ لنا أن نقبل أيضاً بأنّه خالق أفعالنا ،وهذا هو الجبر بعينه .
بيد أنّ القائلين بحرية الإِرادة والاختيار يردون بجواب واضح على أمثال هذه الاستدلالات ،وهو أنّ خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حريتنا في الاختيار ،إِذ أنّ أفعالنا يمكن أن تنسب إِلينا وإِلى الله ،فنسبتها إِلى الله قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا ،فهو الذي وهبنا القوة والقدرة والإرادة والاختيار ،فما دامت جميع المقدمات من خلقه ،فيمكن أن تنسب أفعالنا إِليه باعتباره خالقها ،ولكن من حيث اتخاذ القرار النهائي فإِننا بالاستفادة ممّا وهبه الله لنا من القدرة على الإِرادة والاختيار نتخذ القرار بأداء الفعل أو تركه ،فمن هنا تنسب هذه الأفعال إِلينا ونكون مسؤولين عنها .
وبتعبير الفلاسفة: لا يوجد في هذا المقام علّتان أو خالقان للفعل في عرض واحد .
بل هما ممتدتان طولا ،لأنّ وجود علّتين تامّتين في عرض واحد لا معنى له ،لكنّهما إِذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك ،ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي وهبها الله لنا ،فيمكن أن ننسب هذه المستلزمات إِليه أيضاً ،إِضافة إِلى نسبتها إِلى فاعلها .
هذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم واختياراتهم ،ويهيئ لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل ،فطبيعي أن تعتبر أفعالهم منسوبة إِلى ربّ العمل ،ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل والاختيار ،بل يكونون مسؤولين عن أعمالهم .
وسنبحث فكرة الجبر والاختيارإِن شاء اللهبالتفصيل عند تفسير الآيات المرتبطة بالموضوع .
3ما معنى «بديع » ؟
سبق أن ذكرنا أن «بديع » تعني موجد الشيء بغير سابق وجود ،أي أنّ الله أوجد السموات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة .
هنا يعترض بعضهم بقوله: كيف يمكن إِيجاد شيء من عدم ونحن قد بحثنا هذا في تفسير الآية ( 117 ) من سورة البقرة ،وذكرنا ما ملخصه: إِنّنا عندما نقول إِنّ الله أوجد الأشياء من العدم لا نعني أنّ المادة الأولية لخلقها هي «العدم » مثلما نقول: إِنّ النجار صنع الكرسي من الخشب ،فهذا بالطبع مستحيل ،لأنّ «العدم » لا يمكن أن يكون مادة «الوجود » .
إِنّما المقصود هو أنّ موجودات هذا العالم لم تكن موجودة من قبل ،ثمّ وجدت ،وليس في هذا ما يصعب فهمه ،وقد ضربنا لذلك أمثلة في تفسير آية ( 117 ) من سورة البقرة ،ونضيف هنا قائلين: إِنّنا قادرون على أن نوجد في أذهاننا أشياء لم تكن فيها من قبل مطلقاً ،ولا شك أنّ لهذه الموجودات الذهنية نوعاً من الوجود والكينونة ،رغم أنّه ليس وجوداً خارجياً ،ولكنّها موجودة في أُفق أذهاننا ،وإِذا كان وجود الشيء بعد العدم مستحيلا ،فما الفرق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي ؟
وبناءً على ذلك فإِنّنا كما نستطيع أن نخلق في أذهاننا كائنات لم يكن لهم وجود من قبل ،كذلك يفعل الله ذلك في العالم الخارجي ،انّ قليلا من التأمل في هذا المثال أو في الأمثلة التي ضربناها هناك كاف لحل هذه المسألة .
4ما معنى «اللطيف » ؟
«اللطيف » من مادة «لطف » وقد وردت هذه الصفة في الآيات السابقة كإحدى الصفات الإلهية ،واللطيف{[1271]} إِذا وصف به الجسم دل على الخفيف المضاد للثقيل ،ويعبر باللطافة واللطف عن الحركة الخفيفة وعن تعاطي الأُمور الدقيقة التي قد لا تدركها الحواس ،ويصح أن يكون وصف الله تعالى باللطف على هذا الوجه لمعرفته بدقائق الأُمور ،ولخلقه أشياء دقيقة لطيفة غير مرئية ،وتتسم أفعاله بالدقة المتناهية الخارجة عن قدرة الإدراك .
يروي ( الفتح بن يزيد الجرجاني ) حديثاً عن الإِمام علي بن موسى الرضا( عليهما السلام )يعتبر معجزة علمية في هذا المجال يقول: قال الإِمام( عليه السلام ): « ...إِنّما قلنا اللطيف ،للخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف ،أو لا ترىوفقك الله وثبتكإِلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون ،بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأُنثى ،والحدث المولود من القديم ،لما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإِفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إِليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنّه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا ،علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأنّ كل صانع شيء فمن شيء صنعه والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء » .
إِنّ هذا الحديث الذي يشير إِلى الجراثيم والكائنات المجهرية قبل أن يولد ( پاستور ) بقرون يفسر معنى اللطيف .
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود من اللطيف هو أنّ ذاته المقدسة من اللطافة بحيث لا تدرك بالحواس ،وعليه فإِنّه «اللطيف » لأنّ أحداً لا علم له به ،وهو «الخبير » لأنّه عالم بكل شيء .
وقد ورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت( عليهم السلام ) أيضاً{[1272]} وليس هناك ما يمنع من إِرادة المعنيين من هذه الكلمة .