وان الله سبحانه وتعالى منشئ الوجودنحس بآثاره وننعم بنعمه ولا نراه فهو خفى الألطاف ظاهر بنعمه وآثاره ولذا قال تعالى:( لا تدركه الأبصار ) .
الأبصار:جمع بصر ، والبصائر جمع بصيرة ، والبصر يعلم بالرؤية البصرية . والبصيرة تعلم بالرؤية القلبية والإدراك العقلي والخشوع والاتجاه الروحي والتعلق بالذات العلية ، ولذا قال تعالى:(. . .فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور46 ) ( الحج ) .
والإدراك هو:الرؤية المحيطة بالشيء من كل جوانبه ، فالرؤية البصرية لا ترى إلا الجانب الذي يكون مقابل العيون أما الإدراك فهو الإحاطة بكل الجوانب من كل ناحية ومعنى قوله تعالى( لا تدركه الأبصار ) لا تحيط الأبصار بكل جوانب عظمته وجلاله ، ، وعندئذ ننتقل من الرؤية البصرية على ما تنتجه الرؤية من تأمل وتفكير ، ذلك أن الرؤية البصرية رؤية للمحسوس ، ثم بعد رؤية المحسوس يكون التفكير فيما توجهه هذه الرؤية فاذا رأيت منظرا جميلا فالرؤية تريك هذا المنظر فتستريح نفسك ، وتستروح معاني من الإحساس بالجمال فإذا علا إدراكك فإنك تفكر في بديع الصنع ، وحسن هندسة التناسق ثم أطياف الألوان ثم مهارة الصانع فهذا هو الإدراك بالإبصار فالإدراك بالإبصار هو المعاني التي تومئ بها الرؤية ويوجه اليها النظر المستقيم .
وقوله تعالى:( لا تدركه الأبصار ) هو كناية عن التفكير والعلم الذي ينتج عن البصر ، وقد نفى الله تعالى الإدراك وهو يتضمن نفى الرؤية البصرية ابتداء لأن الرؤية البصرية في الدنيا انما تكون في مكان متميز متحيز والله سبحانه وتعالى ليس له مكان ولا يحده شيء في الوجود وسع كرسيه السموات والأرض وهو السميع العليم .
وفوق ذلك لا يمكن للعقل البشري أن يدرك الحقيقة الا لهية لأنه أعلى وأجل وأعظم من ان تصل إليه المدارك ونحن ندرك آياته ولا نعرف كنه ذاته ، تبارك الله العلي الحكيم هذا معنى نفى إدراك الأبصار وما تؤدي إليه ، وما يمكن أن يؤدي إليه مضمون هذا النفى ثم قال تعالى:( وهو يدرك الأبصار )أي يعلمها علما محيطا وسع علمه كل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء والأرض يعرف ما تراه الأعين وما تدركه وما تؤدي النظرة من تأملات نفسية فهو العليم بخواطر النفوس وخلجات الأفئدة وهو اللطيف الذي يعلم أدق علم الخبير الذي يعلم دقائق كل شيء .
وقد تكلم العلماء في هذا المقام في رؤية الله في الآخرة وفي الدنيا فقال الأكثرون:إن الله تعالى يرى يوم القيامة بكيفية لا نعرفها يراه الأبرار وقد أخذوا ذلك من ظاهر قوله تعالى:( وجوه يومئذ ناضرة 22 إلى ربها ناظرة 23 ) ( القيامة ) وإن ذلك من جزاء المتقين ولا يراه المجرمون أخذا من ظاهر قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون15 ) ( المطففين ) ومن ظاهر قوله تعالى:(. . .ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم . . .77 ) ( آل عمران ) .
وأما في الدنيا فإن الله لا يرى فيها ، لأن الرؤية تقتضي التحيز في مكان والله تعالى منزه عن ذلك وقد طلب موسى عليه السلام رؤية ربه فقال (. . .قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ . . .َ 143 ) ( الأعراف ) فدلت هذه الآية على أن الرؤية في الدنيا غير ممكنة .
وهنا يثار سؤال هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المعراج ؟ بعض العلماء زعم أنه رآه ولا يوجد نص قاطع يدل على ذلك ، ولكن وردت آثار كثيرة تدل على نفيه فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت ربك ؟ قال:( إنه نور فأنى أراه ){[1037]} .
وروى مسلم في صحيحه بسنده الى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال:كنت متكئا عند عائشة فقالت:يا أبا عائشة ( كنية مسروق ) ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت:ما هن ؟ قالت:من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وكنت متكئا فجلست فقلت:يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني الم يقل الله تعالى:( ولقد رآه بالأفق المبين23 ) ( التكوير ) و ( لقد رآه نزلة أخرى13 ) ( النجم ) فقالت:أنا أول هذه الأمة سال عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق الله عليها غير هاتين المرتين:فقالت:أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول:( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول:( ما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا . . .51 ) ( الشورى ) قالت:ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم الفرية والله تعالى يقول:( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته . . .67 ) ) ( المائدة ) قالت:ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية والله تعالى يقول:( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب الا الله . . .65 ) ( النمل ) .
هذه بالنسبة لرؤية الله تعالى في الدنيا وأما في الآخرة فالأمر فيها إلى الله تعالى وهو على كل شيء قدير .