{وَكِيلٌ}: الوكيل على الشيء الحافظ الذي يحوطه ويدفع الضرر عنه ،وإنما وصف سبحانه نفسه بأنه وكيل مع أنه مالك الأشياء لأنه لما كانت منافعها لغيره لاستحالة المنافع عليه والمضار صحت هذه الصفة له ،وقيل: الوكيل من توكل إليه الأمور ،يقال: وكّلت إليه هذا الأمر أي ولّيته تدبيره ،والمؤمن يتوكل على الله أي يفوّض أمره إليه .
{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} في التصور الصافي الذي توحي به الفطرة ،ويستقلّ به الوجدان ،فلا ينحرف بكم التصور إلى الأوهام من الخرافات ..وربما كان اسم الإشارة{ذلِكُمُ} من أجل تأكيد الصورة الواحدة للعقيدة البارزة في حركة الحقيقة في الفكر ،حتى لا يضيع الإنسان في متاهات التصوّر بين الصور المتعدّدة ،فيعرف الإنسان ربّه كما لو كان في متناول الحس ،في ما يعنيه الوضوح الصافي ،الذي يبرّر التعبير عن غير المحسوس بأسلوب التعبير عن المحسوس ..{لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أمّا هؤلاء الذين لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ،فهم مظاهر قدرته ،فمنه يستمدّون الحياة في كل شيءٍ ،فكيف تتخذونهم أرباباً من دون الله ؟!
علاقة الآية بمسألة الجبر والحرية
وجاء المتكلمون ليفلسفوا هذه الآية ،هل الله خالق كل شيء دون استثناء ؛الخير والشرّ ،العدل والظلم ،الكفر والإيمان ؟وإذا كان الأمر كذلك فأين هو موقع حرية الإنسان في ما يريد ويختار ؟وإذا لم يكن كذلك ؟فأين هي القدرة المطلقة التي يتصف بها الله ،عندما تخرجون بعضاً من حركة الوجود في هذا الكون عن مجال قدرته ؟
ولكن المسألة في هذه الفقرة لا تتجه باتجاه الشمول والسعة ،فهي تريد تقرير المبدأ في مواجهة الآخرين الذين يشركون بعبادة الله من هو مخلوقٌ له ،وليست في صدد الحديث عن تفاصيل المخلوقات الموجودة في عالم التكوين وفي حركة فعل الإنسان .
وربما كان من المناسب لجوّ الآية ،أن يكون الحديث فيها عن جانب التكوين في الأشياء ،لأنه الذي يتعلق به الخلق ،أمّا الصفات والعناوين التي تتعلّق بفعل الإنسان ،فإنها لا ترتبط بالجانب الذاتي للفعل ،بل ترتبط بالجانب الاعتباري ،فإن الفعل الصادر من الإنسان لا يتغيّر في صفاته الذاتية ،عندما يكون ظلماً أو عدلاً ،بل هو فعلٌ واحدٌ ،في كلتا الحالتين ،لأن معنى أن يكون ظلماً ،أن يكون صادراً على خلاف وجه الحق ،كما أن معنى أن يكون عدلاً ،هو أن يكون صادراً عن وجه حق .وهو من الأمور التي تدخل في عملية الإرادة الإنسانية التي تعطي للفعل وجهه الحسن أو القبيح ،ولا تدخل في عملية الخلق والتكوين ،فالظلم يبدأ فكرةً في عقل الإنسان ،إلى جانب العدل كفكرةٍ تعيش في تفكيره ،وكذلك كل أفكار الخير والشرّ ،ثم تتحول الفكرة هنا وهناك إلى حركةٍ في الفعل ،لتتحول إلى واقع حيٍّ ،يدفع بالحياة إلى السلبية أو الإيجابيّة من خلال إرادة الإنسان .
ولكن ليس معنى ذلك أن الله قد اعتزل قضية الإنسان بعدما خلقه ،فلا علاقة له بوجوده ،أو بتفاصيل حركة الوجود هذه ،ليكون الأمر على وفق نظرية التفويض المطلق ،فإننا لا نريد أن ننفي فكرة الجبريّة لنستبدل بها فكرة التفويض ،بل ما نريده هو أن ننفي الفكرتين معاً لتكون النظرية عند حد الوسط «الأمر بين الأمرين » التي تعني أن الله أعطى للإنسان خلقه وزوّده بالوسائل اللازمة التي تكفل له استمرار الحياة ،وهو قادرٌ على أن يسلب ذلك منه في كل لحظة .ومنحه ،في نطاق ذلك ،الإرادة الحرّة التي يستطيع من خلالها أن يمارس حريته في سلوك الطريق الذي يحلو له بعيداً عن كل ضغطٍ تكويني ..
فإذا اختار الشرّ كان الشرّ فعله ،من خلال الأدوات التي منحها الله له ،فليس الشر مخلوقاً لله بنحو المباشرة ،وليس مراداً له بنحو الرضى ،ولكنه فعل الإنسان ،من خلال إرادة الله التي تربط بين السبب والمسبب ،فتقتضي أن يوجد المسبّب وهو الفعل إذا تعلقت إرادة الفاعل المختار به ،مع توفر الشروط الأخرى لوجوده ،وبذلك كانت علاقة الله بالأشياء من خلال خلقه للقوانين التي تنتجها ،ومن جملتها ،إرادة الإنسان واختياره ،فلا جبر للإنسان ،لأن الخيط الأول في المسألة مربوطٌ بيده وهو حرية الإرادة ،ولا تفويض له ،لأن الخيط الثاني ،وهو وسائل القدرة بيد الله ،فهو القادر أن يبقيها حيث شاء ،وأن يزيلها حيث يريد .
وفي ضوء ذلك ،لا نستطيع أن نوافق على الفكرة التي تقول: إن الله قد خلق الشرّ والخير ،على أساس أن أفعال العباد مخلوقة له ،لأنّ الله خالق كل شيءٍ ،فهو لم يخلق للعبد فعله ،كما يخلق الأشياء الأخرى ،بشكل مباشر ،أو بشكل غير مباشر ،من دون إرادةٍ أو اختيار لغيره ،بل إنه خلق العبد وخلق إرادته ،وترك له أن يتصرّف بإرادته كما يحلو له ،بعد أن حدّد له ما يرضاه وما لا يرضاه من ذلك ،فإن أراد القائلون بخلق الله للشر هذا المعنى ،فلا مشكلة ،من ناحيةٍ فكرية ،ولكن التعبير يُعتبر سيئاً لا يُعبر عن الفكرة بوضوح ..وإن أرادوا المعنى الذي يرتبط بالجبر ،كان الموضوع محل مناقشةٍ واعتراضٍ من ناحيةٍ فكريّةٍ ؛والله العالم .
خلق الله وقانون السببية
وإذا كانت الآية تنسب خلق كل الأشياء إلى الله ،فكيف نفهم مسألة السببيّة في الأشياء ؟فإذا كان الله خالق كل شيء ،فمعنى ذلك أنّه علّة كل شيء ،فلا معنىمن خلال هذالارتباط الأشياء بعللها الطبيعيّة .
ويجاب عن ذلك بأن عليّة الله للأشياء ،لا تعني إلغاء عللها المباشرة التي ترتبط بها ارتباطاً عضويّاً ،لأن الله يخلق الأشياء حين يخلقها ،على أساس قانون السببيّة الذي يجعل الظواهر الكونية وغيرها خاضعةً لأسبابٍ محدودةٍ منظمةٍ مخلوقةٍ له في ذاتها وفي ما أودعه فيها من خصائص التأثير والتسبيب ،فهو الخالق للأشياء ،من خلال إيجاده لها من العدم ،بطريقةٍ معينة تلغي تأثّر الأشياء ببعضها البعض في نطاق النظام الكوني الذي وضع كل شيءٍ في موضعه في علاقاتٍ شاملة ،تجعل من الكون كله وحدةً شاملةً مترابطةً في حركة الوجود كله ،وذلك لا يلغي السببيّة بل يؤكدها .
وقد تحدَّث بعض الباحثين في الفلسفة في هذا المجال ،عن مصطلح «العلة الفاعلية » ،وأراد منها ،ما منه الوجود ،أي: ما يصدر منه ،و«العلّة المادية » ما به يوجد الشيء ،أي: ما يتأثّر به وجوده ،ولا تنافي بين الأولى والثانية ،بل الثابت هو الانسجام والتلاؤم ،فإن دور العلة الفاعلية هو إصدار الوجود بواسطة العلة الماديّة ،لا بشكل مباشر ،ونحن لا نريد أن نذهب بعيداً في التأكيد على طبيعة هذه المصطلحات كأسلوبٍ من أساليب البحث القرآني ،لأننا نعتقد أن الأسلوب القرآني يعالج الفكرة بطريقةٍ لا تحتاج إلى مثل هذا التعقيد .
حركة العبادة في اتجاه التوحيد
{فَاعْبُدُوهُ} وإذا كان الله خالق كل شيء ،كانت الأشياء مملوكةً له وخاضعةٌ بوجودها خضوع العبودية لقدرته وسلطانه ،في ما تملكه من وسائل التعبير عن العبودية ،لأن ذلك هو الذي يحقق لها معناها في الشعور بالفقر المطلق أمام الغنى المطلق ،وهو الذي يعمّق في ذاتها الإحساس بدورها في الحياة أمام الله ،لأنَّ وعي الإنسان لدوره ينطلق من وعيه لصفته التي يتحرك بها في الكون ،فإذا كان غير واعٍ لذلك ،أو كان يملك وعياً مضادّاً ،كانت ممارساته وتصوراته منحرفةً عن الاتجاه السليم الذي يمثله الخط المستقيم في العقيدة والحياة .ولهذا كان القرآن يؤكد دائماً على الربط بين التصور الصحيح والممارسة الصحيحة ،في عملية تقويم خط السير للإنسان ..وهذا هو ما نستوحيه من هذه الفقرة من الآية الكريمة:{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} في تعميق الشعور بربوبية الله للإنسان ،وما توحيه من وعيٍ لمعنى العبودية في نفسه ،وتوجيه الممارسة إلى القيام بدور العبادة لله ،كتعبيرٍ روحيٍّ عن أصالة الإيمان في نفسه ،بطريقةٍ عملية واقعيّةٍ .
إن العبادةفي مفهومها العميق الشاملتعني الخضوع في كل شيءٍ ،في ما يمثله ذلك من استسلام مطلق يطال كل المواقف والأوضاع ،بحيث لا يتحرك الإنسان في أيّة كلمة ،أو أيّ موقف أو علاقة ،إلا عندما يربطها بالله سبحانه وتعالى ..أن تكون حياته كلها لله لأن ذلك ما ينسجم مع خط العبودية المطلقة ..
وفي ضوء ذلك ،فإن الإخلاص لأيّ رمز من الرموز التي اعتبرها الناس رمزاً لحياتهم ولوحدتهم ،لا بد من أن يرتبط بالله ،ليكون الإخلاص له ،من خلال الإخلاص للمعنى الذي يرمز له ،ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الرمز شخصاً أو أرضاً ،أو مؤسسةً أو وطناً أو قوميّةً أو لوناً ،فإن الإخلاص في هذه الأمور وغيرها يعتبر نوعاً من أنواع الشرك الخفيّ ،إذا لم يتحرك من خط المفاهيم المنسجمة مع خط الله .
إنّنا نخلص لرسول الله( ص ) ،من خلال صفة الرسالة فيه ،كما نخلص لأولياء الله من خلال صفة الولاية لله في أنفسهم ،فلا نخلص لذواتهم ،ولا نستغرق في أشخاصهم ،ولذلك فإن طريقة تعبيرنا عن هذه العلاقة ،لا بد من أن تكون منسجمة مع أحكام الله وتعاليمه ،فلا تدفعنا العاطفة إلى أن نمارس من ذلك ما لا يرضى به الله في قولٍ ولا في فعل ،بل يجب أن نقف عند حدودهسبحانهلئلاّ تجرّنا العاطفة إلى الغلوّ الذي ينتهي بنا إلى الكفر أو إلى ما يقرب من الكفر ..
ونحن عندما نقدِّس أرضاً أو نحترمها ،فإننا لا نقدّس ترابها وحجارتها ،باعتبار أنها تحتوي على الأسرار الخفيّة القدسية الكامنة فيها ،بل نتحرك في ذلك من الخط الشرعيّ الذي تعبَّدنا الله بالسير عليه ،في ما تعبَّدنا به من احترام أرض معينة ،أو بنيّةٍ معيّنة كما في احترامنا لأرض مكة ،لأن الله جعلها حرماً آمناً يأمن فيها الناس على أموالهم ونفوسهم وأعراضهم ،وكما في تعظيمنا للكعبة ،لأنها بيت الله الذي تعبَّد خلقه بالطواف حوله والحجّ إليه ،واستقباله في كل مكان في العالم في الصلاة وفي أمثالها ،مما أراد الله استقبال القبلة فيه ،ولذلك فلا بد لنا من الاقتصار على تنفيذ أحكام الله التي شرّعها في ذلك كله .
المفهوم الإسلامي للارتباط بالأرض
ومن ذلك نعرف أنَّ الارتباط بالأرض باعتبارها وطناً تعارف الناس على الإخلاص له والدفاع عنه ،لا يمثِّل شيئاً في مفهوم الإسلام ،إلاّ بقدر ما تمثِّل الأرض من رمزٍ روحي ،كأن تكون أرض المسلمين والمؤمنين ،لتصبح المسؤولية عنها مسؤوليةً عن المسلمين والمؤمنين ،في ما يمثِّله الاعتداء عليها من اعتداء عليهم ،والحفاظ عليها من حفاظ على وجودهم وعزتهم وكرامتهم .أمّا إذا انفصلت عن المعاني والقيم الإنسانية الإيمانيّة ،وتحوّلت إلى مجرد رمزٍ جامد يخضع له الناس كقيمةٍ ذاتيّةٍ ،فإنها تتحول إلى صنمٍ يُعبد من دون الله ،تماماً كأيِّ صنم آخر ،لأن الصنميّة لا تتمثل في أشكالٍ معينة ،بل تتمثل في الرموز التي لا تحمل أيَّ معنى يتصل بالله .
ولهذا ،فإن علينافي إخلاصنا لحركة التوحيد في عقيدتنا وحياتناأن نناقش كل ما يستحدثه الناس من رموزٍ ماديةٍ أو معنويةٍ يريد الناس الخضوع لها ،لنجد مدى ارتباطها أو عدم ارتباطها بالله ،بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ ،مثل الإنسان ،النسب ،الأرض ،اللغة ،الوطن ،النظام ،وغيرها مما أريد للناس أن يعتبروه أساساً للوحدة والخضوع والطاعة .وبذلك يمكن لنا أن نستوحي من قوله تعالى:{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أن هذه الرموز ليست ربكم ،لأنها مثلكم مخلوقةٌ لله ،أو لأنها مصنوعة من أفكاركم وأوهامكم ،وليس لها أيّ امتياز يرفعها إلى هذا المستوى الذي ترفعونها إليه ،فلا تجعلوا لله منها أنداداً تحبونها كحبه ،لأن الحب لله وحده ،وكل حبٍّ لأيّ شيءٍ لا يرتبط به ،فهو عبادة لغيره بشكل غير مباشر ..
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يرعاه ويحوطه برحمته ولطفه ،فهو مشرفٌ على جميع مخلوقاته ومهيمنٌ عليها في كل أمور الحياة والموت وقضية المصير .