{ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون( 34 ) يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون( 35 )والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون( 36 ) فمن أظلم ممن افترى1 على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب2 حتى إذا جاءتهم رسلنا3 يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا4 وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين( 37 ) قال ادخلوا في أمم قد خلت5 من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة6 لعنت أختها7 حتى إذا اداركوا8 فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون( 38 ) وقال أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون( 39 )إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل9 في سم الخياط10 وكذلك نجزي المجرمين( 40 ) لهم من جهنم مهاد11 ومن فوقهم غواش12 وكذلك نجزي الظالمين( 41 )} [ 34-41] .
الآيات استمرار في السياق وتعقيب على ما سبق كما هو المتبادر .وقد جاءت على أثر التنديد بشرك المشركين وعاداتهم الفاحشة ونسبتها إلى الله كذبا وافتراء لتنبه الناس إلى أن الله قد جعل لكل أمة وجيل أجلا وجعل لكل أمة فرصة في هذا الأجل ،حيث يرسل إليهم رسلا منهم يتلون عليهم آياته ويبينون لهم الهدى من الضلال .فالذين يغتنمون الفرصة فيستجيبون إلى دعوة الله ويتقون ويكون رائدهم الصلاح والإصلاح هم الناجون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .أما الذين يضيعون الفرصة فيكذبون بآيات الله ويستكبرون عنها فيستحقون عذاب الله وناره ويخلدون فيهما .وقد أخذت الآيات بعد ذلك تندد بهم وتنذرهم بالمصير الرهيب الذي سوف يلقونه وبالندم الشديد الذي سوف يستشعرونه .فليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله ويكذب بآياته .ولسوف يأتيهم ملائكة الله ليتوفوهم بعد أن يستوفوا ما كتب لهم في الحياة ،فيسألونهم سؤال المندد المتحدي أين الذين كانوا يدعونهم من دون الله ويشركونهم مع الله ليأتوا وينصروهم ،فلا يسعهم إلا القول: إنهم ضلوا عنا ثم إلا الاعتراف بما كانوا عليه من سخف وكفر ،وحينئذ يقال لهم: ادخلوا النار أمة بعد أمة .فتأخذ كل أمة تلعن أختها التي سبقتها وحينما يتم تلاحقهم يلقي الآخرون اللوم على الأولين ويطلبون من الله أن يضاعف لهم العذاب ؛لأنهم هم الذين أضلوهم ويرد هؤلاء عليهم مكذبين شامتين ،ويقول الله تعالى لهم جميعا ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون وإنه لمضاعف لكم جميعا .وقد انتهت الآيات بتيئيس المكذبين المستكبرين من دخول الجنة ونيل رضاء الله عز وجل وولوج ساحاته العلوية بأسلوب تشبيهي قوي ولاذع وهو إناطة ذلك بدخول الجمل في ثقب الإبرة ثم بوصف ما يكون لهم من فراش وغطاء ناريين في جهنم جزاء وفاقا على ما كان منهم من كفر وإجرام وظلم .
وقد جاءت الآيات عامة الخطاب لتكون عامة الشمول والتقرير والتنديد والإنذار والتبشير للمخاطبين بها مباشرة وللناس عامة .وأسلوبها قوي نافذ يخاطب العقل والقلب معا .وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت الذين آمنوا واتقوا وإثارة الرعب في المكذبين المستكبرين وحثهم على عدم تضييع الفرصة قبل فوات الوقت والندم حيث لا ينفع .
وفحوى الآيات مؤكد لما نبهنا إليه مرارا من تقرير القرآن لقابلية الاختيار والكسب التي أودعها الله في الناس واستحقاق كل امرئ لمصيره وفق اختياره وكسبه وموقفه من دعوة الله وأوامره وحدوده .
ويلفت النظر الآية [ 37] وقوتها الإنذارية والتقريرية ،وبخاصة ما نبهت إليه من افتراء الكذب على الله .ولعلها تحمل فيما تحمله إنذارا وتسفيها لكل من يجرؤ على نسبة قول أو عمل أو عقيدة أو تحليل أو تحريم إلى الله بغير علم ولا برهان تنطعا أو اندفاعا وراء الهوى وتكون بذلك مستمرة التلقين والمدى .
والمقصود بالرسل في جملة{حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} الملائكة الذين يتوفون الناس حينما ينتهي أجلهم وقد ذكر الملائكة بصراحة في مثل هذا القصد في آية سورة النحل هذه:{الذي تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون28} وآية سورة النساء هذه:{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا97} .
والملائكة وما يقومون به من خدمات لله مما يجب الإيمان به ؛لأنه مما قرره القرآن .ومن الواجب الوقوف عند ما جاء في القرآن في ذلك بدون توسع ولا تزيد ولا سيما ما لا يستند إلى نص نبوي ثابت ؛لأن ذلك مما لا طائل منه من حيث إنه من الأمور المغيبة التي لا يصح الكلام فيها إلا بنص قرآني أو نبوي ثابت .مع ملاحظة ما كان من عقائد العرب فيهم وصلة ذلك بكثير مما ورد في القرآن عنهم على ما شرحناه في سياق سورة المدثر .
ولقد روى الطبري روايات عديدة عن أهل التأويل في مدى جملة{لا تفتح لهم أبواب السماء} منها عن ابن عباس أنها لا تفتح لأرواحهم ومنها عنه أيضا أنها لا تفتح لخير يعملونه .وعن مجاهد أنها بمعنى لا يصعد لهم كلام ولا عمل إلى السماء .وعن السدي أن الكافر إذا أخذت روحه ضربتها ملائكة الأرض حتى ترتفع إلى السماء فإذا بلغت السماء الدنيا ضربتها ملائكة السماء فهبطت إلى أسفل سافلين .وصوب الطبري تأويل أن السماء لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم ،وروى حديثا عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر قبض روح الفاجر ،وأنه يصعد بها إلى السماء فلا يمر الصاعدون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث ؟فيقولون: فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهي إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ{لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} .
وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة .ومهما يكن من أمر فالمتبادر من روح الجملة والتي بعدها أنهما أسلوبيتان بسبيل بيان شدة سخط الله تعالى على الكافرين المستكبرين عن آياته واستحالة حصولهم على رضائه والدخول في جنته .والله تعالى أعلم .
التلقين الذين انطوى في حكاية تلاوم الأجيال المتعاقبة في جهنم
والمتبادر أن المقصود من أولاهم وأخراهم الذين حكت الآيات تلاومهم هم الآباء والأبناء أو الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة أو الفئات التابعة والفئات المتبوعة .وأن كلام الآخرين هو من قبيل الاعتذار بأنهم إنما ساروا على خطوات الأولين وضلوا بضلالهم ،وردت الآيات عليهم بأن العذاب المضاعف لهم جميعا لأن كل امرئ رهن بما كسب ولا تفيده مثل هذه الحجة .ومع واجب الإيمان بما أخبرت به الآيات من الحوار الذي سوف يكون بين فئات الكفار في النار فإن في الصيغة التي ورد فيها ذلك تلقينا مستمر المدى في تقبيح اتباع الأولين أو الآباء أو الزعماء في كل ما ساروا عليه ولو كان شرا أو ضلالا وإثما وفي وجوب تروي كل امرئ وكل جيل في أمر نفسه وتحري طريق الحق والهدى والسير فيه وسقوط حجة المحتجين في تقليد غيرهم والسير على خطواتهم ،وقد تكرر مثل هذا التلقين في آيات كثيرة مما مر أمثال له في السور السابقة .