وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنس المجاهدين الصابرين المتقين بذوي الصلات بهم في الدنيا إذا صلحوا – ذكر أنسا روحانيا كريما ، وهو إيناسهم بالملائكة الأطهار ، فقال تعالت كلماته:{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} أي يحفون بهم ، يجيئون إليهم من كل ناحية ، فهم في أنس روحي ، كما أنهم في متعة الجنة ، وهي نعيم مادي ،{ فيهما فاكهة ونخل ورمان ( 68 )} [ الرحمن] ، وفيها كل ما تشتهي النفس ، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وأولئك الملائكة الأبرار يقولون ما يملأ نفوسهم بالأمن والبشر والاطمئنان ،{ سلام عليكم بما صبرتم} ،{ تحيتهم يوم يبقونه سلام . . . ( 44 )} [ الأحزاب] وهذا يتضمن معنى الإيناس بإقرار السلام ، فإقراء السلام في ذاته إيناس ، وفيه مع ذلك بث الاطمئنان وطيب الإقامة ، وذلك بسبب الصبر ، أي بسبب صبركم في الجهاد ، وصبركم في الطاعات وتجنب الشهوات ، وصبركم على تحمل المكاره ، وصبركم على البعد عن الأحبة ، وقد روى عبد الله بن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟"، قالوا:الله ورسوله أعلم ، قال:"المجاهدون الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم النار ، فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء ، فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عيكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"{[1359]} .
ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي على قبور الشهداء كل حول فيقول:"السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"{[1360]} ، وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك ، ولم يذكر علي مع أنه بطل الجهاد الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أعرف الناس بعد الرسول بحق الجهاد وهو القائل:( الجهاد باب من أبواب الجنة ) .
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الجهاد ماض إلى يوم القيامة"{[1361]} ، وإن المسلمين هانوا على أنفسهم يوم بث أعداؤهم التخاذل عن الجهاد ، فأطاعوهم ، فخذلهم الله تعالى ، ولا تزال تطلع على المتخاذلين من المسلمين عن الجهاد ، فقد ساروا وراء أذيال النعم ، وصاروا عاملين لأعدائهم يقدمون لهم أسباب المال الذي يستخدمونه ضدهم .
ثم بين سبحانه أن هذا الجزاء هو خير الجزاء ، فقال:{ فنعم عقبي الدار} . الفاء للإفصاح ، أي إذا كان ذلك هو العقبى والنتيجة ، فنعم هذه العقبى ، وتلك النهاية .