ولقد ضرب الله تعالى المثل للكفران بالنعمة ومآلها والأمثال تضرب للناس لعلهم يعقلون ، فقال:
{ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( 112 )} .
جعل حال قرية مثلا مصورا لمن يكون في رغد العيش والأمور والاستقرار ، ثم يكفر بنعمة الله لينزل عليه البلاء فيحرم نعمة الاطمئنان ، ويستبدل بها خوفا ، أو يحرم رغد العيش ، ويستبدل به جورا ، وجعل المثل حال قرية – وهي المدينة الكبيرة لمكة – الدنيوي خسفا أو زلزالا ، أو أمطار الحجارة فقط ، بل قد يكون العقاب الدنيوي ضيقا في الرزق بعد السعة ، وخوفا بعد أمن ، وهذا مجمل معاني النص القرآني ؛{ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان}{ وضرب} ، أي بين ،{ مثلا} ، أي حالا ثابتة ،{ قرية} وهي مفعول وأخرت عن{ مثلا} ، وهي المفعول الأول ؛ وذلك لأن الأوصاف التي تجئ بعد ذلك كانت أوصافا في القرية ، وهو مورد المثل وموضعه ، ولأن ذكر المثل بها ثم ذكر مورده وموضعه يكون بعد ترقب واستشراف فيكون أمكن في النفس والفؤاد .
وهذه القرية وصفها الله تعالى بأنها كانت آمة كما كانت مكة ، فقد كان في ها حرم آمن يتخطف الناس من حوله وكان يأتيها رزقها رغدا واسعا كثيرا إذ كان يجبى إليها من الثمرات استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام ، وإذ قال سبحانه:{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( 37 )} [ إبراهيم] .
وقال تعالى في هذه القرية:{ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} ، ( الفاء ) للترتيب والتعقيب ، أي أنها بدل أن تشكر نعمة الله إذ منحها الأمن والعيش الرغد الهنئ ، وهذا أقصى ما يطلب لمثل هذه القرية ، بدل هذا كفرت ، أي رتبت على النعمة الكفر بها ، وهذا عكس ما يترقب ، ويتوقع منها . فكان هذا فيه معنى التوبيخ أو التهكم بأمرها ، والأنعم جمع نعمة ، أو جمع نعمى ، والمعنى النعم العالية التي بلغت أقصاها .
وقوله تعالى:{ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} ، في الكلام استعارتان:
الاستعارة الأولى – أنه شبه الجوع والخوف باللباس السابغ الذي يغشى الداخل والخارج ، وذلك بجامع اشتماله على الجسد والنفس ، وكل الجوارح ، فإن ، اللباس يغشى الجسم كله ، والخوف والجوع يغشيان الجسم كله ، فالخوف يغشى الجسم بالاضطراب والهلع والجزع ، والجوع يغشاه بالضعف والحاجة ، وهي كالعرى ، أو كالثوب الذي لا يستر .
والاستعارة الثانية – هي تشبيه الجوع والخوف بالشيء الذي يذاق جريا على ما يجري على الألسنة من قول فلان ذاق مرارة الجوع ، وقد قال في ذلك إمام البلاغة الزمخشري:"أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة في البلايا والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون:ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر".
هذه الخلاصة ما يقال في هذا المثل الرائع ، وتلك الحكمة المباركة ، وهو مثل يعطى صورة بيانية رائعة لمحكم القول .
وقد أسهب الزمخشري في بيان الاستعارة حتى قال الناصر أحمد بن المنير الذي يتعقبه بالنقد اللائم:قال أحمد:"وهذا الفصل من كلامه يستحق أن يكتبوه بذوب التبر ، لا بالحبر".
وقد ذكر ابن كثير أن المثل ينطبق على أهل مكة ، قد كانوا يعيشون آمنين في رغد ، ولكنهم اضطهدوا المؤمنين وآذوهم واستعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بهم البلاء ، وحق فيهم قول الله تعالى:{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ( 28 )} [ إبراهيم] ، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف"{[1399]} ، وقد أصابهم الجوع الشديد .
دع عنك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سد عليهم تجارتهم حتى أحسوا بنعمة الله عليهم ، وذلك كله بين الله بسببه بقوله تعالت كلماته:{ بما كانوا يصنعون} ، أي بسبب الذي كانوا يصنعونه من شرك وصد عن سبيل الله تعالى ، ولعنتهم للمؤمنين ، وحملهم على الردة بعد إيمان .