وإن التفكير السيئين دائما أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ، كما جاء سارق فقيل له لم سرقت ؟ فقال:ذلك قضاء الله فكأنه يحمل الله تعالى ما ارتكب ، كذلك تفكير المشركين .
{ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( 35 )} .
إن الذين أشركوا وكانوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم قوم خصمون يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم لكل ما يتوهمون أن فيه حجة لهم ، غير مدخرين قولا ولولا كان باطلا في ذاته ، ولا يؤمنون به .
قالوا متحدين النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم أن ينزل بهم عقاب ما حق ،{ لو شاء الله ما عبدناك من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} ، أي لو شاء ألا نشرك ، وألا نحرم شيئا حلالا مما حرمنا ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، لأنزل بنا عقوبة رادعة مانعة قاطعة ، ولكنه لا ينزل ، وينذر ولا ينفذ ، فهو تحد للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم ما أنزل الله على الأقوام قبلهم ؛ ولذا قال تعالى من بعد ذلك:{ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} ، أي لا يملك إنزال العذاب ، وإنما الذي يملكه الله تعالى ، وهو ليس عليه إلا البلاغ ، وقد بلغ وأنذر .
هذا تخريج الحافظ ابن كثير ، وهو تخريج مستقيم تتناسق فيه العبارات ، وتتلاقى المعاني .
وهناك تخريج آخر يقاربه ولا يباعده ، وهو أنهم يقولون ذلك استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وتهكما ، بأنه لو كان يستطيع التغيير لغير ، ولكن الله رضي لنا ذلك ، فيقول الله{ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} وهو قريب من الأول في معناه ، وإن خالفه بعض المخالفة في مبناه .
وهناك تخريج ثالث ، وهو الذي ضرب على نغمته الزمخشري ، وسار في مساره غيره ، وإن خالفوه في النتيجة ، وذلك التخريج أنهم يسندون إلى الله وزرهم في الشرك فيقولون:إن شركهم بمشيئة الله ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن فلو شاء ألا نعبدهم من دونه ما حرمنا ، فيكف نحاسب على أمر شاءه الله تعالى ، وبذلك يربطون الأمر بالإرادة ، فيقولون:إن أمرا يجب أن يكون لإرادته ، ولا يأمر الله بشيء لم يرده ، فيقول لهم:{ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} ، أي ليس على الرسل إلا البلاغ ، وهو تبين أمر الله تعالى فلا تجادلوا ، ونهم قد بينوا الحق فلا سبيل للتخلص من أمر الله ، وأنكم تحسون في ذات أنفسكم بالاختيار وعلى ذلك يكون .
ونقول إن التخريج الأول تكون الآية متناسقة في ألفاظها وعباراتها ومعانيها ، والتخريج الأخير يجعل قوله تعالى:{ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} وفي ربطه ببقية الآيات تكلف ، ولو كان المخرج له إمام البلاغة الزمخشري .
وهنا إشارات بيانية ترجع التخريج الأول ونشير إليها:
الأولى – في قوله تعالى:{ كذلك فعل الذين من قبلهم} ، أي فعل ذلك الفعل الذي تفعلون فعل الذين من قبلكم ، وهؤلاء لم يفعلوا بل قالوا ولم يقل:وكذلك قال الذين من قبلكم ، فدل ذلك على أن ما كان منهم ليس مجرد قول بل هو فعل وهو التحدي أو الاستهزاء ، وبذلك يترجح التخريج الأول أو الثاني ولا يترجح الأخير .
الثانية – قوله تعالى:{ ولا حرمنا من دونه من شيء} ، أي ما حرمنا من غير الله من شيء ، بل من ذات أنفسنا .
الثالثة – قوله تعالى:{ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} الفاء للإفصاح ؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ تقديره إذا كنتم تتحدون وتطلبون إنزال العقاب فليس هذا لنا ، إنما علينا البلاغ الواضح المبين الذي لا يترك ريبة لمرتاب ، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع ، أي ليس على الرسل إلا البلاغ المبين ، أي التبليغ الواضح وهذه الجملة السامية لا تخلو من إنذار ، ووصف البلاغ بأنه مبين يفيد أنه معلوم بإنذاره فمن اهتدى فلنفسه ومن عاند وخالف فليه إثم عناده .
والآية هنا رجحنا أنها للتحدي أو الاستهزاء ، وفي سورة الأنعام يرجح أنه لتعلاتهم في إثمهم وشركهم ، ولذا كان الرد عليهم:{. . .قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( 148 )} [ الأنعام] .