من الأخلاق القرآنية
وصف القرآن الكريم في الآية السابقة بأنه تبيان كل شيء وهدى ورحمة ، وهو بذلك يشير إلى أنه جامع للشريعة وفيها الهداية ، وفيها الرحمة ، وقد بين الله الهداية والرحمة وغيرها فقال:
{ إن الله يأمر العدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( 90 )} .
العدل يتضمن الرحمة بأعلى معاني الرحمة ، وإن كان العدل يوجب الشدة والغلظة على الجناة ؛ لأنه إذا كان فيه غلظة على الجاني ، ففيه رحمة بالمجموع ، والرحمة بالمجرم تشجع الجريمة ؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"من لا يرحم لا يرحم"{[1390]} ؛ لأن العطف على الجاني إيذاء للكافة ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرحمة المطلوبة:"هي الرحمة بالكافة"{[1391]} ، وإذا كانت شريعة الله تعالى رحمة للعاملين ، فلأن قوامها العدل .
العدالة في الإسلام:
تجرى في الشرائع كلمات ثلاث المصلحة أو المنفعة ، والواجب أو الفضيلة ، والعدالة ، ونجد أن كلمة العدالة أشملها ، بل هي تشمل الأمرين الآخرين ، فإن العدل يتضمن المصلحة العامة والمنفعة الشاملة ، إذ يكون الجميع في أمن ويمنع الظلم والبغي والعدوان ، وهو بذلك يدفع أضرار هذه الموبقات ، والعدل فيه حماية للأنفس ، وقمع للرذائل ، فالرذائل في جملتها اعتداء ، وكل دفع للاعتداء يكون عدلا ، وإن كل شيء في الشريعة قام على العدل ، حتى عقود المعاملات فإنها قامت على المساواة ، فأساس التعاقد هو المساواة بين العوضين ، فإذا دخل التعامل غبن أو تغرير أو ممساكة أثر ذلك في صحة العقد مما أدى إلى كلام طويل بين الفقهاء في ذلك .
والعدل الذي يأمر الله تعالى به ليس هو فقط الإنصاف بين الناس المأمور به في قوله تعالى:{. . .وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . . .( 58 )} [ النساء] ، بل إن العدل له شعب ثلاث:
1- العدل في حق الله تعالى بشكر نعمته ، والقيام بما أمر من فرائض ، والانتهاء عما نهى من منهيات ، فذلك عدل مع الله ؛ لأنه في جملته من شكر النعمة وهو عدل لأنه قيام بالواجب نحو ما أعطى سبحانه وتعالى .
2- وعدل في ذات نفسه بأن يكون مستقيم النفس ، لا انحراف ولا تجانف ، ولا ميل عن الطريق السوي .
3- وعدل مع الناس بأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"عامل الناس بما تحب أن يعاملوك"، وبأن ينتصف للناس من نفسه ، ولا يلجئهم إلى الحاكم .
ثم أخيرا إنصاف الناس إذا حكم .
وتعجبني كلمة قالها ابن العربي ، فقد قال:"العدل بين العبد وربه إيثار حقه تعالى على حق نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، واجتناب للزواجر والامتثال للأوامر ، وأما العدل بينه وبين نفسه ، فمنعها مما فيه هلاكها ، قال الله تعالى:{. . .ونهى النفس عن الهوى ( 40 )} [ النازعات]"، وعزوب الأطماع عن الاتباع ، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى ، وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل أو كثر ، والإنصاف من نفسه لهم بكل وجه ، ولا يكون منك إساءة إلى حد بقول ولا فعل ، ولا في سر ولا في علن ، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى ، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى".
ولم يذكر العدالة في الحكم ؛ لأن أمر لا يحتاج إلى تنبيه بعد نص القرآن في قوله تعالى:{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . . .( 58 )} [ النساء] .
هذا هو العدل الذي أمر الله تعالى به قد ذكرناه ، وإن كان بيانه أعلى مما تشمله عقولنا ، وقد ابتدأ سبحانه وتعالى به ؛ لأنه يتعلق بالكافة ، وهو مطلوب في كل حال ، وهو إعطاء كل ذي حق حقه ، ثم أمر بعد ذلك بالإحسان وهو أكثر من العدل فيوضأ ، وخيره يمتد ويزيد ؛ ولذا عقب العدل بالإحسان .
الإحسان:
والإحسان مصدر أحسن ، وأحسن تتعدى بنفسها ، وتكون بمعنى الإتقان والإحكام ، ومنه الإحسان في العبادة كيفا بأن ينصرف الوجه لله تعالى ، ويقرب منه ، ومنه أداء النوافل لإتقان الفرائض ، ومنه حديث جبريل في التعريف بالإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"{[1392]} .
وأحسن تتعدى ب ( إلى ) بمعنى أعطاه حقه وزاد عليه فضلا من عنده ، حماية لنفسه من الظلم ووقاية له من التعدي ، والإحسان بهذا المعنى يكون في المال فيكون بإعطاء الزيادة عما يستحق ، ويكون في القول فيقابل القول السيئ بالقول الحسن ، كما قال تعالى:{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( 34 )} [ فصلت] ويكون بالصفح عمن ظلم ، وبالعفو عمن أساء ، ويكون بالربط بين الناس بالمودة والعفو فما زاد عبد بعفو إلا عزاء .
والإحسان يكون بين الخلطاء والعشراء ، والتعامل الأحادي ، ويكون الأمر بالإحسان بعد الأمر بالعدل انتقال من الأمر العام الذي هو صالح وواجب في كل الأحوال ، وفي كل الأوقات إلى أمر آحادي تطيب له النفوس ، وتتلاقى به المحبة والمودة ، يكون التآلف والتراحم والتآخي في الجماعة .
إيتاء ذي القربى:
وبعد ذلك نزلت الأوامر إلى الأسرة بربط آحادها ، فقال تعالى:{ وإيتاء ذي القربى} والقربى مؤنث أقرب ، والمعنى إيتاء الأقربين ومعونتهم ، وألا يضن عليهم بخير يقدمه لهم ، وهو صلة الرحم التي أمر الإسلام بها ، والإيتاء الإعطاء والأصل المال ، ولكنه يشمل كل ما يكون خيرا يسديه إليهم مالا أو معروفا .
والأسرة في الإسلام ليست مقصورة على الزوجين والفروع ، بل هي الأسرة الممتدة الشاملة للأصول والفروع والحواشي من الإخوة والأخوات وأولادهم ، والأعمام والعمات وأولادهم ، والأخوال والخالات وأولادهم ، وقد أوجبت الشريعة الإسلامية وجوب نفقة القريب على قريبه إذا عجز عن الكسب ، ولم يكن ذا مال ، ووضعت مقياسا دقيقا أساسه الغرم بالغنم فمن كان يرثه إذا مات ، تجب عليه نفقته إذا عجز .
هذه هي الأمور التي أمر الله تعالى بها ، وعليها يقوم بناء المجتمع الصالح ، وبعد ذلك نهى الله سبحانه عما يخرب ذلك المجتمع وينخر في عظام المجتمع الحمى ، فقال تعالى:{ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} .
نهى عن أمور ثلاثة هي أدوات الهدم في البناء الاجتماعي:
الأمر الأول –{ الفحشاء} ، وهي بمعنى الزيادة والإفراط فيها ، وكل المعاصي فيها إفراط في الزيادة عن مقتضى الفطرة ، ويقول البيضاوي في تفسير معنى{ الفحشاء}:هي الإفراط في متابعة القوى الشهوية كالزنى ، فإنه أقبح أحوال الإنسان ، ونقول إن الفحشاء تشمل كل متابعة للهوى الجامح الخارج عن حدود الاعتدال كشرب الخمر والقمار والزنى ، ومجاوزة الحد في أي أمر من أمور الشهوة حسيا أو معنويا .
الأمر الثاني –{ والمنكر} هو ما تنكره العقول المستقيمة ، ويخرج به المرء عن حد المعقول كقول الزور والبهتان ، والإفراط في الاستهانة بحقوق غيره ، والاندفاع وراء غضب جامح يخرج عن حد المعقول ، إلى حد ما ينكره المجتمع ويتجافاه ، ويقطع المودة وينقض ما أمر الله تعالى به أن يوصل .
الأمر الثالث –{ والبغي} هو الاعتداء على الناس ، والتجبر والاستعلاء عليهم ، وأن يمنعهم حقوقهم ويأخذها بغير حق ، وإن ذلك من آثار الوهم بأنه من صنف أعلى من صنفهم ، فيغالى في الاستهانة بهم ، ويبغى عليهم في حقوقهم ، ويبخسهم حقهم ، كما نرى الآن من بغى بعض الناس على بعض باسم أنهم سود ، أو باسم أنهم من الأمم النامية ، أو باسم الطبقات ، فكل ذلك من وهم الاستعلاء والغلو في إعطاء أنفسهم حقوقا ليست لهم ، ولكنهم يفرضونها لأنفسهم ، وسببها بغيهم وظنهم أنهم من صنف فوق الناس وأن الناس دونهم ، ولقد قال البيضاوي في البغي ما نصه:"والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، فإنها الشيطنة التي بمقتضى القوة الوهمية ، ولا يوجد في الإنسان شر إلا وهو مندمج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث ( أي الشهوة أو الغضبية أو الوهمية ) .
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:{ يعظكم لعلكم تذكرون} ، أي رجاء منكم بأن تذكروا هذه الأوامر فتطيعوها ، وهذه المنهيات فتجتنبوها ، وتكون لكم موعظة تتعظون بها ، وتعتبرون في اتصالكم بالناس والحياة بها .
لقد قال ابن مسعود ، إن هذه أجمع آية لمعاني الإسلام ، ويروى عن عثمان ابن مظعون أنه قال:أسلمت حياء من النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمعت هذه الآية آمنت بالإسلام حقا وصدقا .
ويروى أن أكثم بن صيفي بني تيم وخطيبهم ، وكبيرهم في سنه لما بلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم أراد أم يذهب وقد بلغه الكبر ، فأبى عليه قومه ، وقالوا ، أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه ، قال:فليأت من يبلغه عني ، ويبلغني عنه ، فدعا رجلين ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا:نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك:من أنت ، وما أنت ؟ ، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله ، ثم تلا قوله تعالى:{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( 90 )}"قالوا:ردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقال:أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب ، وسطا في مضر – أي من أشرف مضر – وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعها أكثم قال:إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها . . .كونوا في هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا أذنابا .
هذا ويجب التنبيه إلى أن أبلغ ما في المأمورات العدالة ، فهي أقواها أثرا في بناء المجتمع ، وأقبح المنهيات البغي ، فكلها يمس ناحية فيه ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي قطيعة الرحم:"ما من ذنب أحق أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم"{[1393]} .
العهد في الإسلام: