دعا الله تعالى في هذه الآية إلى العدل في وسط الجماعة الإسلامية ، ودعا إلى العدل بين المسلمين وغيرهم ، وميزان العدالة الدولية الوفاء بالعهد ؛ ولذا جاء الأمر بالوفاء بالعهد بعد الأمر بالعدل ، فقال عز من قائل:
{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 )} .
أمر الله تعالى بأن يعدل المؤمنون مع غيرهم ، ولو كانوا يبغضونهم ، فقد قال تعالى:{. . .ولا يجرمنكم شنآن قوم عل لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى . . .( 8 )} [ المائدة] ، وإذا كان في بعض الديانات جاء عمن ينسبونها إليه:استغفروا لأعدائكم . فشعار الإسلام:اعدلوا مع أعدائكم ، وشعار العدالة أقوى وأثبت وأليق ، وكيف يستغفر للعدو إذا مات على ضلالة ، ولكن العدل معه معقول في ذاته ، وتحقيقه وهو الأكرم والأنسب .
ومن العدالة مع الأعداء الوفاء بالعهد ؛ ولذا قال تعالى:{. . .وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 )} [ الإسراء] ، وقد قال تعالى:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} . قيل إنها جاءت في بيعة المسلم عند دخوله في الإسلام يبايع الله ورسوله على الإسلام ، وقيل:أن هذا في النذور ، والحق إن الأمر في الآية عام في وجوب الوفاء بالعهد سواء أكان عهدا فرديا أم كان جماعيا أم كان دوليا ، والوفاء بالعهد من العدالة ، والعهد اتفاق بين طرفين يوجب على كل واحد منهما التزاما ، وهو كأي عقد بين طرفين يوجب إلزاما والتزاما ، فلا ينقضى إلا بتراضي الطرفين ، وليس هذا داخلا في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف على شيء ، فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر"{[1394]} ، فإن ذلك في الأيمان التي هي التزام شخصي كأن يحلف ألا يفعل كذا ، أو ألا يصلح بين خصمين ، فإن ذلك واقع تحت النهي في وله تعالى:{ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس . . .( 224 )} [ البقرة] .
وقد سمى الله تعالى العهد الذي يعاهد عليه ، ويكون فيه التزام من الجانبين ؛ ولذا كان بصيغة المفاعلة ،{ عاهدتم} ، سماه عهد الله لأنه موثق بيمين الله عادة ، ولأنه بين دولة الإسلام وغيرها ، فكان كأنه عهد الله الذي وثقه المسلمون في ظل الله تبارك وتعالى .
وهو يشمل كل عهد عاهدته الدولة الإسلامية بعهد الله تعالى ، وهو عدل وقوة ، أما أنه عدل فلأنه وفاء بما التزموا ومن العدل الوفاء لهم ، وكما أنهم ملزمون بالوفاء فيجب علينا أن نلتزم به ، وأما أنه قوة ، فلأن من يطمئن إلى عدله يكون آمنا من جانب عاهدهم ، وينصرف لتنمية ثروته ، وتمكين قوته ، والانفراد بأعدائه الذين لم يعاهدوه ، وانظر إلى عهد الحديبية الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين ، فإنه انصرف في المدة التي كان فيها عهد الدعوة إلى الإسلام ، حتى كان من دخلوا في الإسلام بعد العهد أضعاف من دخلوا من قبله بل أضعاف أضعاف وانفرد صلى الله عليه وسلم لليهود ، فغزاهم في خيبر ، وخرج للرومان في خيبر .
والعهد ليس أبديا بل ينقض إن كانت خيانة ، أو مظنة خيانة كما قال تعالى:{ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . . .( 58 )} [ الأنفال] .
وإن العهد لا يكون بين دولة الإسلام وغيرها من الدول فقط ، بل يكون في داخل الدولة الإسلامية كالإخاء الذي كان بين المهاجرين والأنصار والمهاجرين بعضهم مع بعض والأنصار بعضهم مع بعض .
وقد أكد سبحانه الأمر بالوفاء بالنهي عن النقض معللا النهي ، فقالت تعالت كلماته:{ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} .
أي لا تنقضوا العهود لأنها نقض للأيمان بعد توكيدها ، والتوكيد هو التأكيد ، وهما لغتان جائزتان وتوكيد الأيمان معناها أن تكون باسم الله ، وبأن تكون أمام شهود وفي مجالس تقرها وتؤيدها ، والكفيل هنا هو الرقيب الضامن ، فمن عاهد بيمين الله ، فقد جعل الله تعالى كفيلا له ضامنا لقوله فعليه أن يحترم ، وكفيلا – هنا تتضمنه معنى الرقابة ؛ لأن الكفيل يراقب المكفول ، حتى يؤدى ما التزم أداءه .
وقد بين سبحانه مضار النقض ، وأشار إلى ذلك فقال:{ إن الله يعلم ما تفعلون} ، أي عليم بما فعلتم وقد عقد العهد ، ووثقتموه بيمين الله تعالى ، وعليم بفعلكم إذا أردتم النقض ، وقد أكد سبحانه وتعالى علمه الأزلي بالجملة الاسمية ،"وبإن ، وبلفظ الجلالة ، وبتقديم الجار والمجرور على الوصف"؛ لأنه يفيد مزيد العناية بأفعالكم وشدة رقابته عليها .