وقد بين بعد ذلك أن الجزاء من جنس العمل ، فقال:
{ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( 15 )} .
حقائق تؤكدها هذه الآية الكريمة:الحقيقة الأولى:أن الإنسان في الأعمال الدنيوية إن اهتدى فهدايته عائدة بالخير عليه ، وإن ضل فضلاله مغبته عليه .
الحقيقة الثانية:أن الإنسان ليس له إلا ما سعى ، فوزره هو الذي يتحمله ، ولا يتحمل وزر غيره . الحقيقة الثالثة:أنه لا عذاب إلا بعد الإنذار ،{. . .وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 24 )} [ فاطر] .
ونتكلم في استخراج هذه الحقائق من نصوص الآية .
الحقيقة الأولى:
{ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} الفاء هنا مترتبة على ما ذكر قبلها ، ذلك أنه إذا كان الحساب بكتاب منشور لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمال الدنيا ، إنه من يهتدي فهدايته لنفسه فلا يعذب ، وينال الجزاء من عند الله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ورضوان من الله أكبر ، ومن سلك طريق الضلالة وكتبت عليه دونت في كتابه فإن عاقبة ضلاله تكون على نفسه جزاء لما قدمت يداه من عذاب عسير ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب مقيم دائم ، لهم جهنم خالدين فيها أبدا بما كانوا يكسبون .
الحقيقة الثانية:
هي كما أشرنا ما دل عليه بقوله تعالى:{ ولا تزر وازرة وزر أخرى} ، أي لا يحمل إنسان وزر غيره ، و{ وازرة} وصف لنفس ، أي لا تحمل نفس وازرة إثم نفس أخرى ، وعبر سبحانه عن حمل الوزر بالوزر ، فقال:{ ولا تزر} لأن الوزر سبب حمله ، فأطلق السبب وأريد المسبب ، ألا يقال كيف ذلك والله تعالى يقول:{ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ( 13 )} [ العنكبوت] . ونقول في الجواب عن ذلك ، إنما يحملون أثقال غيرهم إذا كانوا سببا فيها كالذين يصدون عن سبيل الله يحملون أثقال من صدورهم ؛ لأن نوعا من السببية في كفرهم بصدهم عن سبيل الله وضلالهم .
ويلاحظ في النص السامي أمران:
الأمر الأول:قوله تعالى:{ فإنما يضل عليها} أي وزر ضلاله عليها .
الأمر الثاني:أنه سبحانه يقول:{ فإنما يضل عليها} فذكر هنا القصر والاختصاص ، للإشارة إلى أن الضلال لهم وحدهم ، فلا يجديهم أن يقولوا{ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإن على آثارهم مقتدون ( 23 )} [ الزخرف] ، فعليهم أن يتحملوا تبعة أعمالهم ، وأن يقدموا على ما يقدمون عليه بتفكير من غير تقليد ، فلا يتحمل من يقلدونهم شيئا من أوزارهم .
والحقيقة الثالثة:
أنه لا عذاب من غير إنذار ، ودل على ذلك قوله تعالى:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} إن العقل يدرك الخير والشر ، ولكن لأن الغرائز البشرية متشابكة يؤثر بعضها على بعض ، فالغريزة الجنسية توجد الهوى ، والهوى يجعل غشاء القلوب فلا تفقه ، وعلى الآذان فلا تسمع سماع الهداية ، ولا يبصر بصر اعتبار ، يكون ذلك ، فلا بد من منبه يزيل غشاوة الأعين وضلال القلوب ، ووقر الآذان ، وهذا هو النذير ، والعذاب من غير النذير لا يكون من رحمة الله تعالى بعباده ،{ وما كنا معذبين نبعث} نفي مؤكد حتى تكون الغاية ، أي ما كان من شأننا ولا من رحمتنا أن نعذب إلى أن نبعث رسولا يعلم الحق ويبينه ، والباطل ويزهقه ، وقال تعالى:{. . .وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 24 )} [ فاطر] .