الترف مآله الدمار
قال الله تعالى
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 16 ) وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( 17 ) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا ( 18 ) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( 19 ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظور ( 20 ) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجت وأكبر تفضيلا ( 21 ) الترف أن يسترخي الإنسان في إرادته وعزيمته وصبره ، فيكون كل شيء فيه مسترخيا ، فإرادته مسترخية ، وعزيمته لا قوة فيها ونفسه غير منضبطة ، والشهوات حاكمة ، والأهواء جامحة ، والمترف يختص بثلاث خصال:ضعف في الإرادة ، واندفاع وراء الأهواء والشهوات ، وأثره تجعله يعيش في محيط نفسه ولا يخرج عن دائرتها ، ولذا كان المترفون دائما هم أعداء الأنبياء ؛ لأنهم أوتوا أثرة مقيتة ، وكل حق يحتاج إلى فداء ، وجهاد وبلاء وجلاء ، وكان أتباع النبيين من الفقراء الذين لا يعيشون عيشة راضية ، وكان أعداء النبيين من المترفين يقولون:{. . .وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي . . .( 27 )} [ هود] .
وهذه الآية الكريمة:{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 16 )} .
إن إرادة الله تعالى لهلاك الأمة تكون إذا سارت الأمة في أسباب الهلاك ، وانتهت إليه ، فيريد الله تعالى لها ما أخذت في أسبابا وسارت في طريقه قاصدة الغاية مريدة لها ، فمعنى إرادة الله تعالى سيرها في طريق الهلاك حتى ترد موار الهلكة ، وذهبت أسباب قوتها ، وحلت محلها أسباب انهيارها .
والقرية:المدينة العظيمة ، ويصح أن يراد بها الدولة أو الأمة ، أو الجماعة أيا كان عددها ، وقوله تعالى:{ أمرنا مترفيها} فيها قراءات ثلاث ، وكلها متواترة ، وكلها ذات معنى صادق مستقيم:
القراءة الأولى:( أمرنا ) بفتح الميم وهمزة من غير مد ، والأمر هما مجازي ، ليس المقصود به الطلب ، وإنما المقصود تسهيل أسباب الترف ، وأسبابا الاسترخاء الذي يلازمه ، ولا يفترقان ، ويتبعهما سيطرة الأهواء والشهوات ، وغمر العقل والإدراك بهما حتى لا يدرك إلا من ورائهما ، فإن تسهيل ذلك يكون كالأمر ؛ لأنه يؤدى مؤدى الطلب ، وقد قال في ذلك الزمخشري كلمة حكيمة ، قال:والأمر مجازي ، حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا ، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازا ، ووجه المجاز أنه سبحانه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إملاء النعمة فيه وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا على الخير والشر ، ويتمكنوا من الإحسان والبر ، كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول ، وهو كلمة العذاب فدمرهم . هذا هو المعنى على قراءة الفتح بتخفيف الميم .
والقراءة الثانية:هي تشديد الميم ، أي ( أمرنا ) مترفيها بأن جعلناهم أمراءها ، وحكامها فكانوا أمراء أشرارا ؛ لأن الترف كما بينا يؤدى إلى الشر والأثرة ، وحيثما كانت الأثرة بعد الخير ، والأمراء الأشرار هم أساس الفساد ، ولقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:"إذا كان أمراؤكم خياركم ، وأغنياؤكم أسخياؤكم ، وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها ، وإذا كان أمراؤكم شراركم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، وأموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها"{[1415]} .
والمترفون الذين أترفوا في ذات أنفسهم ، وعمتهم الأثرة ، والرخاوة ، وحب الشهوات إن كانوا أمراء كانوا ، ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لكل شيء آفة ، وآفة هذا الدين حكامه"{[1416]} .
القراءة الثالثة:أن الميم مفتوحة بالتخفيف ومد الهمزة أي "آمرنا"ويكون المعنى كثر أي إذا أكثر الله تعالى المترفين في الأمة عمها الفساد والفسق فدمرها الله تعالى تدميرا .
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
الأمر الأول:في قوله تعالى:مترفيها – فيه إشارة إلى أن السبب في التدمير فهو الترف والاسترخاء ، ولذا قال تعالى:"ففسقوا"والفاء هنا لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها ، أي أن تمكين المترفين مؤد إلى الفسق لا محالة .
الأمر الثاني:أن التدمير:الهلاك وهو نوعان:النوع الأول ذهاب قوتها ، وأن تكون طعمة سهلة لغيرها ، فذلك فناء لشخصية الأمة وضياع لقوتها ، وصيرورتها تابعة لغيرها ، فتفقد عزتها ، والنوع الثاني:أن ينزل الله تعالى عليها عذابا من عنده ، كريح حاصب صرصر عاتية ، أو يجعل عاليها سافلها ، ويمطرهم حجارة من سجيل ، كما فعل بقوم لوط ، إذ فسقوا عن أمر ربهم .
وأيا كان نوع التدمير ، فقد رتبه سبحانه على الفسق ، وأكده بالمصدر الذي هو مفعول مطلق ، فقال سبحانه:{ فدمرناها تدميرا} ، وقوله تعالى:{ فحق عليها القول} ، أي فوجب عليها القول أي أمر الله تعالى بتدميرها ، إما بسبب عادي أدى إليه الترف ، وإما بعذاب من عنده ، والله تعالى أعلم .