{مُتْرَفِيهَا} المترف: المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه .
{فَدَمَّرْنَاهَا}: أهلكناها
شروط النجاح والهلاك
في هذه الآية حديثٌ عن قانون اجتماعي من القوانين التي ركز الله الحياة عليها ،وهي تكشف أسباب هلاك الأمم ،وتدمير المجتمعات .فقد جعل الله للحياة قاعدةً تتحرك من خلالها ،فالنجاح يتحقق إذا انطلقت الحركة من قاعدة الحق والعدل والخير ،حيث تسود النظرة المتوازنة وعنصر الانضباط في علاقة القاعدة المؤمنة بالقيادة الصالحة ،فلا مجال للهوى أو العبث أو البغي أو الفساد ،بل هناك النظام الذي يحكم القيادة في قيادتها للأمة ،ويحكم الأمة في التزامها بتعليمات القيادة .وبذلك تتوازن الحركة ويستقر الواقع ،وتتطلع الحياة إلى مستقبلٍ قويٍّ زاهرٍ .أمّا إذا انطلقت الحركة من قاعدة الباطل والظلم والشرّ ،التي تلتقي بفقدان التوازن في النظر إلى الأشياء ،وانعدام الانضباط في طبيعة العلاقات ،فهناك الحكم الذي يخضع للمزاج ،والحركة التي تنطلق وفق الهوى ،والحياة التي يعبث بها الفساد ،ويسيطر عليها البغي والعدوان ،فإذا اجتمعت هذه الشروط ،كان مستقبل الناس الهلاك والدمار .
المترفون غايتهم الاستمتاع
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} فالإرادة الإلهية تتعلق بالأشياء على أساس قانون السببية الذي أقام الله الكون عليه ،فإذا توفرت أسباب الهلاك لهذه القرية أو تلك ،من خلال الظروف المحيطة بها ،والأعمال التي تحدث فيها ،والعلاقات السيّئة التي تحكمها ،فلا بد من أن يحصل المسبَّب وهو الهلاك كنتيجة حتميّة للقانون الكوني ،{أمرنا مُتْرَفِيهَا} والمترفون هم الذين يعيشون حياة الترف المتمثّلة في إرواء ظمأ الحس من اللذة ،وإشباع جوع الغريزة من الاستمتاع ،والأكل والشرب ،وتحويل الطاقات كلها نحو الحصول على الجاه والوصول إلى مواقع الفساد ،بحيث يعتبر ذلك كله القيمة المثلى التي تسقط أمامها كل القيم ،فلا قيمة لغيرها ،ولا حركة للعلاقات الإنسانية إلا من خلالها .وهؤلاء المترفون هم الذين ينشرون الفساد ،لأنهم لا يطيقون الحياة مع الصلاح والمصلحين ،ولا ينسجمون مع أفكارهم وأوضاعهم ،ولا يستجيبون إلا لشهواتهم وأطماعهم ،بل قد يقفون ضدهم في عملية صراعٍ عنيٍف ،ولذلك فإن المترفين يعملون على إخضاع الحياة لعناصر اللهو والعبث والفجور وتهيئة الأجواء الملائمة لطريقتهم في الحياة ،ويثيرون الفساد في كل المجالات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ،بحيث يتحول الواقع إلى ما يشبه الفوضى في ميزان القيم ،كنتيجةٍ لانحراف الموازين عن خط الحق والاستقامة والإصلاح ،بحيث يصبح المعروف منكراً ،والمنكر معروفاً .
فهم أمر الله للمترفين
ولكن كيف نفهم أمر الله للمترفين ؟
هناك تفسيران في هذا الصدد: الأول: أن المقصود بالأمر التكليف التشريعي ،فيكون المعنى أمرنا بالطاعة ،فلم يمتثلوا بل فسقوا ،كما يقال: أمرت فلاناً فعصاني ،وبذلك لا يكون في الآية أيُّ إشكال من هذه الجهة ،لأنها تكون منسجمةً مع الموازين الفكرية الإسلامية .
الثاني: أن متعلق الأمر هو الفسق ،فيكون المعنى: أمرناهم بالفسق ففسقوا فيها ،كما يقال: أمرته فأكل ،وهنا يأتي الإشكال: كيف ينسجم هذا مع الخط السليم للعقيدة ،فكيف يأمر الله بالفسق كما جاء في قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ؟[ الأعراف:28] .
وقد ذكر في الجواب عن ذلك ،أن الأمر بالفسق ليس أمراً تشريعياً ،بل المقصود به الأمر التكويني الذي يرادف الإرادة التكوينية التي تتعلق بأفعال العباد بشكل غير مباشر ،وذلك بتهيئة الأسباب الواقعيّة التي لا يستطيع المترفون الفسق بدونها ،من القوة البدنية والفكرية والمال والسلاح والجاه والشهوات ،ولكن ذلك لا يجعل من الفسق أمراً حتمياً ،لأن بإمكانهم أن يسخّروها في الطاعة والخير ،وفق ما أراد الله لهم بالالتزام بالتشريع .فإذا استعملوها في طريق الفسق ،كان الفعل مرتبطاً بالله من ناحية أنه السبب الأعمق الذي ترتبط به الأعمال ،وأنه الذي ربط بين السبب والمسبب ،غير أن الإنسان هو الذي يحرك السبب نحو المسبّب ،فيكون هو العنصر المباشر الذي يتحمل المسؤولية ،لأن الله جعل له الحرية بين الفعل وعدمه .وهذا أسلوبٌ قرآنيٌّ ،أشرنا إليه في كل مورد أسند فيه الفعل الصادر من الإنسان مباشرة إلى الله .
ولعل التفسير الثاني هو الأقرب إلى ظاهر الآية ،كما نلاحظ ذلك في دراسة هذا التعبير من خلال التعبيرات المماثلة التي حذف فيها متعلق الأمر للدلالة عليه بالفعل المسبوق بالفاء ،الذي يوحي بانفعال الفاعل بتحقيق الأمر المتوجه إليه ،بينما نجد التفسير الأول بعيداً عن الفهم العرفي ،بالإضافة إلى أنه لا وجه لاختصاص المترفين بتوجيه التكليف إليهم وعصيانهم له ؛والله العالم .
{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} الإلهي الذي تفرضه سننه الكونية ،{فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} وأهلكناها بكل مظاهر الهلاك الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي ،جزاءً لها على ذلك كله .
وخلاصة الفكرة ،التي تريد أن توحي بها الآية ،أن الله لا يريد إهلاك أيّة قرية إلا بعد أن يتحرك فيها المترفون الذين يستغلون النعم التي أغدقها الله عليهم في الفساد والإفساد اللّذين يؤدّيان إلى الدمار الشامل .