نواهي الله لتطهي الجماعة
بين الله أنه لا يصح أن يبخل خوفا على المال وشحا به ، وإنه لا يصح أن يسرف ، فالإسراف تفريق للمال في غير مصارفه ، ثم بين أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأشد أنواع الحرص والخوف من الفقر قتل الولد خشية الفقر ، ولذا جاء النهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق وتلك مناسبة واضحة بين الآيات ، وترى أن الآيات غير مقطعة بعضها عن بعض ، بل هي موصولة يأخذ بعضها بحجز بعض ، وهنا أمر آخر ، وهي أن الآيات السابقة كان فيها بناء الأسرة على المودة والمحبة ، وبناء المجتمع على رعاية الضعفاء كما قال صلى الله عليه وسلم:"إبغوني في ضعفائكم ، وإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"{[1427]} وبعد بيان الأسرة وحماية الضعفاء ، وفي ذلك بناء المجتمع بناء صالحا ثابتا ، أخذ عن آفاته ، وابتدأ بأشدها نكرا ، وهو قتل الأولاد خشية الإملاق ، فقال:
{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( 31 )} .
الإملاق هو الفاقة ، وشدة الفقر ، وأصلها اللغوي أملق الرجل إذا لم يبق له مما يملك إلا الملقات ، وهي جمع ملقة ، وهي الحجر الأملس الذي لا يقف الماء عليه ، ولا ينبت زرعا ، وذلك كناية عن أنه لا يملك ما يقوتهم به .
أي لا تقتلوا أولادكم خشية الفاقة ، وألا تملكوا لهم مالا تنفقون عليهم منه ، و{ خشية إملاق} تفيد أنهم الآن مالكون ما ينفقون منه ، ولا يقتلونهم لذلك بل يقتلونهم خشية أن يتكاثروا فيكون الإملاق ، ولذا قال تعالى:{ نحن نرزقهم وإياكم} بتقديم رزقهم عليهم ؛ لأنهم يخافون موتهم من جوع ، فيسارعون بقتلهم ، فالله تعالى أمنهم على رزق هؤلاء الأولاد ، وفي تقديم رزق الأولاد إشارة إلى أمرين:أن رزقهم يتبع رزق الأولاد ، فإن قتلوهم فقد حرموا هم أيضا الرزق ثم إن الأولاد ذاتهم رزق من الله .
وبعد هذا الترغيب ، وتسهيل الأمر عليهم ، بين أثر ذلك القتل أو أشار إليه فقال تعالى:{ إن قتلهم كان خطئا كبيرا} أي إثما ، فالخطأ:الإثم والوزر ، وقرئ بفتح الخاء{[1428]} على أنه من الوزر أيضا ، لأنه من خطئ يخطأ خطأ ، كأثم يأثم إثما يقال:إثما ، ويقال خطأ بمعنى الوزر ، كما يقال حذرا وحذرا بفتح الحاء والكسر .
ووصفه سبحانه بالكبر منكرا ، دليل أنه خطأ عظيم أشد ما يكون الإثم إذ إنه يؤدى إلى فناء الأمة أو ضعف نسلها ، وفي ضعف النسل ذهاب ريحها وقوتها .
والقتل المنهى عنه في الآية يشمل ما كان في عصر نزول القرآن وما قبله من أعمال الجاهلين ، من وأد البنات ، وما يقوم به الآن بعض المنحرفين المعاندين الذين يمنعون النسل ، أو يحددونه ، أو يضبطونه ، أو ينظمونه ، أو غير ذلك من العبارات المقلدة التي يدعون إليها المسلمين ولا يدعون إليها النصارى واليهود . روى في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود:"قلت يا رسول الله:أي الذنب أعظم قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قلت:ثم أي ؟ قال:"أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك"، قلت:ثم أي ؟ قال:"أن تزانى بحليلة جارك"{[1429]} .
وقد قال تعالى:{ وإذا الموءودة سئلت ( 8 ) بأي ذنب قتلت ( 9 )} [ التكوير] .
قالوا إن في الآية نهى عن القتل ، وضبط النسل أو تحديده أو تنظيمه ، هو بمنع الحمل ، لا بالقتل بعد أن يولد حيا ، ونقول في الجواب عن ذلك إن ذلك وأد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أخبار العزل:"العزل هو الوأد الخفي"{[1430]} ومهما يكن فإنه محاربة لإرادة الله وتحد ؛ لأن الله هو الرزاق ، ومعاندة لصريح الآية{ نحن نرزقهم وإياكم} .
ولقد رخص الإمام الغزالي في العزل لأسباب كثيرة ، ولكنه قرر أمرين:
الأمر الأول:أنه لا يجوز العزل لحال الخوف والفقر ؛ لأن ذلك يكون مصادمة صريحة للنص القرآني ، وإن الأرض لم تضق بسكانها ، فلم ينل من خيرات إلا بعضها القليل ، وأرض المسلمين واسعة .
الأمر الثاني:أن العزل في أي حال رخص فيها مما لا ينبغي أي أنه لا ينبغي بالجزء فلا يجوز بالكل ، والله أعلم . بعد النهي عن قتل الأولاد رجاء ما يؤدى إلى قتل الأولاد أو ضياعها أو فيه بشكل عام إضعاف للنسل فقال تعالى:
{ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( 32 )} .