العبرة في الماضين
قال الله تعالى:
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القايمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( 58 ) وما منعنا أن نرسل بالآيت إلا أن كذب يها الأولون وآيتنا وثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويف ( 59 ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغينا كبيرا ( 60 )
{ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتب مسطورا ( 58 )} .
"إن"هنا نافية ، و "من"لاستغراق النفي ، والقرية:المدينة العظيمة التي يبعث فيها الأنبياء ، والحصر في الهلاك قبل يوم القيامة ، أو العذاب في يوم القيامة ، إنما هو في القرية الظالم أهلها الذين يكفرون بالنبيين ، والهلاك هو اجتثاثهم في الدنيا بخسوف تجعل عاليها سافلها كما فعل بقوم لوط ، أو بريح صرصر عاتية ، كما فعل بعاد ثمود ، أو بالغرق كما فعل بقوم فرعون وملئه ، وغير هؤلاء ، هذه هي الحال التي يكون فيها الاستئصال وقطع الدابر ، وذلك يكون قبل يوم القيامة . الحالة الثانية أن يتركوا في الدنيا يعصون في الآخرة عذابا شديدا ،{ كان ذلك في الكتاب مسطورا} والكتاب هو اللوح المحفوظ الذي يسجل فيه ما يقضى به بين عباده .
وإن هذا التنويع لحكمة الله تعالى وتقديره ، فإنه إذا كانت الدعوة خالدة باقية ، وهي دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم استأنى بهم لأن فيهم الطائعين ، وليسوا قليلين ، وفيهم من طغى وبغى ، وفي ذرية الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا مجاهدين كعكرمة ابن أبي جهل ، وكخالد بن الوليد ، وغيرهم ممن كانوا لهم في الجهاد باع مشهور ، وقوله:{ إلا نحن مهلكوها} أو ( معذبوها ) فيها تنوع حالهم ،{ أو معذبوها} و "أو"مانعة خلو ، لا مانعة جميع ، فكان منهم من اهلكوا قبل يوم القيامة ومن عذبوا بعدها ، وأمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكها الله بعاصف يقتلعها من الأرض ، ولكن أهلك العصاة لينالوا عذاب الآخرة .
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال:سأل أهل مكة الني صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فأوحى إليه قد سمعت الذي قالوا ، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا ، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب ، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة ، وإن شئت أن تستأني بقومك استأنيت بهم ، قال:"يا رب استأن بهم"{[1442]} .
وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله:{ كان ذلك في الكتاب المسطور} ، أي أنه مسجل في اللوح المحفوظ كما أشرنا من قبل ، لقد تبين من هذا أن المشركين كانوا يطلبون آيات حسية كآيات النبيين السابقين كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى ، وكإخراج الموتى من القبور أيضا ، وقد أجابهم الله تعالى بأنه أنزل هذه الآيات ، ومع ذلك لم يؤمنوا ، وإن