وإن الله كما يجرى السفائن في البحار يحفظ راكبيها من كل ضر يسببه ركوب البحار أو لا يكون به ، ولذا قال تعالى:
{ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( 67 )} .
الضر هو ما يصيب الإنسان في جسمه من مرض أو خوف أو اضطراب ، وإن أهوال البحر كثيرة ، وخصوصا عندما كان السير فيه بالمراكب الشراعية ، ولا تزال الأهوال قائمة ، فمنها دوار البحر ، ومنها تلاطم الأمواج وعلوها أحيانا حتى تصير كالجبال ، ومنها المرض حيث يكون منقطعا عن أهله ، فإنه يكون في هذه الحال منقطعا عن الناس لا يعلم به أحد ممن يستغيثهم فيغيثونه ، فهل يذكر الأوتان التي يدعوها من دونه قال سبحانه:{ ضل من تدعون إلا إياه} ، أي غاب عن خواطركم من تدعونها آلهة وبدت لكم حقيقتها وهي أنها أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تغيث ولا تستغاث ، ولعلكم لا تدركون هذه الحقيقة وقت سرابكم وتغمركم الأوهام التي أضلتكم وقوله تعالى:{ إلا إياه} ، أي غاب كل ما تزعمون قوة ، ولا يحضر الله سبحانه وتعالى ، و ( إياه ) ضمير منفصل في محل النصب ، والكلام يشير إلى وحدانية الله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة .
وقوله تعالى:{ وإذا مسكم} معناه أصابكم ، وقال سبحانه وتعالى:{ وإذا مسكم} للإشارة إلى أن البحر مخوف مرهوب ، فالمس يشمل الإصابة التي تصيب الأبدان ، ويشمل خوف الغرق والفزع عندما تضطرب الأمواج ويعلو الفلك وينخفض ، وقد وجفت القلوب واضطربت الأفئدة .
وقال تعالى:{ فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} .
الفاء هنا عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وهو ترتيب عكسي ، أي أنه كان يترتب على هذا الشكر ، ولكن ترتب العكس ، فهذا دليل على الجحود ، وعمقه في نفوسهم وتغلغله بسبب قلوبهم الكافرة غير الشاكرة .
وقوله تعالى:{ فلما نجاكم إلى البر} يشير إلى أنهم وهم في البحر هم في مخاطره ، ولذلك جعلت غاية النجاة البر ،{ نجاكم} فيها معنى الإنقاذ ، وأنهم ما داموا في البحر فهم عرضة لأهواله ، وبعد أن جاء عصر البخار الذي تسير به السفن وسائر المراكب من قطر إلى قطر وغيرها ما تزال في البحر مخاطرة .
ويقول سبحانه:{ أعرضتم} ، أي انصرفت نفوسكم عن معاني الضراعة ونسيتموها وكأن لم يكن ضر ولا صرف ، وكذلك شأن الإنسان دائما لا يذكر الأهوال إلا وقت نزولها فإذا زالت نسيها ، كمال قال تعالى:{ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( 10 )} [ هود] .
وقد قال البيضاوي في معنى{ أعرضتم}:اتسعتم ، أي صرتم في سعة بعد ضيق واستشهد بقول ذي الرمة:
عطاء فتى يمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
وقد ذكره على أنه احتمال في المعنى ، ونرى أن المعنى بعمومه يشمله .
هذا ، وإن السير بالمركب في البحار أمر شديد أو كان شديدا جدا في العصر الأول ، وكان يدفع للإيمان إذا كانت النفس مدركة ، ويروى أنه عند الفتح الإسلامي لمكة نفر ناس من أن يخضعوا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم وهربوا وركبوا الفلك إلى الحبشة ومنهم عكرمة بن أبي جهل ، فركب البحر ، فجاءتهم ريح عاصفة فقال القوم بعضهم لبعض:إنه لا يغنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده ، فقال عكرمة في نفسه:والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد ، فلأجدنه رؤوفا رحيما ، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم وحسن إسلامه .