وموضوع النداء ، بينه بقوله تعالى عنه:
{ قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا 4 وإنّي خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا 5} .
{ وهن العظم} ، أي ضعف ، ووهن العظم دليل على وهن الجسم كله ، لأنه عمود الدين وبه قوامه ، وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته ، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه ، كذا قال القرطبي في تفسيره{[1460]} .
ذكر أولا ما دل على الضعف الحقيقي ، ثم ذكر ما يدل ظاهرا على الضعف ، وهو أنه يعلوه الشيب فقال:{ واشتعل الرأس} الاشتعال الانتشار ، و{ شيبا} تمييز محول عن الفاعل ، والمعنى اشتعل شيب الرأس ، أي انتشر الشيب فيه ، والاشتعال مع أنه بمعنى الانتشار إلا أنه غلب على انتشار النار .
وهنا نجد ثمة استعارة ، فقد شبه انتشار بياض الشيب باشتعال النار ، إذ يكون الشيب عند انتشاره لامعا كوهج النار ، ولأن فيه إفناء الشعر الأسود ، كما تحرق النار ما يكون حطبها ، ولأنه أمارة الفناء للعمر كما تفني النار ما تحرقه ، وأسند الشيب إلى الرأس مع أنه يكون في الشعر من قبيل اسم المحال وإرادة الحال ، إذ جلد الرأس هو منبت الشعر ويكون فيه ، وإن في هذا النص من البلاغ ما يليق بالقرآن الكريم أبلغ القول في الإنسانية كلها ، إذ هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فإن نسبة الاشتعال إلى الرأس ما يثير الاهتمام فيحاول العقل تعرف اشتعال الرأس فيجيء التمييز{ شيبا} بما يفيد اشتعال الشعر ، ولم يذكر الشعر بل اكتفى بذكر محله .
وقال الله تعالى عن زكريا:{ ولم أكن بدعائك رب شقيا} في هذه الجملة السامية الدلالة على رجائه من الله تعالى ، وفيها ذاتها ضراعة ، وعبر هنا بالدعاء ، وفي الأولى بالنداء للدلالة على أن النداء استغاثة وتلهف ورجاء ، ودعاء وعبادة وتقيّ ، وذكر{ رب} في هذه لبيان أن نعمه سبحانه وتعالى موصولة دائما منذ خلقه إلى أن يبعثه نبيا ، و{ شقيا} بالأمر إذا تعب فيه ولم ينل ثمرته ، أو طرد من خير ، والمعنى لم أكن منذ خلقتني بدعائك محروما متعبا ، بل كانت نعمة واستجابة دعائي قائمة دائمة موصولة ، وفي نفي الشقاء في الدعاء ماضيا تأكيد للرجاء قابلا ، وأن ذلك من طرائق الاستجابة والرغبة فيها ، وإن ذكر النعمة الماضية شكر لها وإيذان لشكر فاعله .