تلك أخبار النبيين تذكر لما فيها من عبرة ، ولما فيها من دعوة إلى الإقتداء بهم وسلوك طريقهم ، فهم أسوة الأبرار ، وطريقهم هو طريق الأخبار ، وإذا كان طريق إبليس طريق الأشرار ، فطريقهم هو طريق الأخبار .
وابتدأ بذكر إدريس فقال عز من قائل:
{ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا 56 ورفعناه مكانا عليا 57} .
الكتاب هو القرآن كما أشرنا من قبل ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإدريس قيل:إنه كان قبل نوح ، ولا نجد ما يدل على ذلك من كتاب ولا سنة ، وإنما هي أخبار كتاب قصص الأنبياء .
ورد في تفسير القرطبي ( إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم ، وأول من خاط الثياب وليس المخيط ، وأول من خط في علم النجوم والحساب ) ، وإذا صح هذا فربما يكون أقدم من نوح ، ولكنا في مثل هذا نقول علمه عند الله ، وإنه لا يزيل إبهاما في القرآن ، ولا يأتي بعلم جديد ، وإنه لمن أمر فالظن لا يغنى من الحق شيئان ويؤكد الزمخشري أنه جد أبى نوح عليه السلام ، ويقول بعض العلماء:إنه إلياس عليه السلام المذكور في سورة الصافات ، وقد قال عن إلياس عليه السلام في سورة الصافات:
{ وإن إلياس لمن المرسلين 123 إذ قال لقومه ألا تتقون124 أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين 125 الله ربكم ورب آبائكم الأولين 126 فكذّبوه فإنهم لمحضرون 127 إلا عباد الله المخلصين 128 وتركنا عليه في الآخرين 129} ( الصافات ) .
وإذا صح أن إدريس هو إلياس فتكون سورة الصافات قد بينت دعوته ، وأن قومه أنكروا وكذبوا ، وقد وصف الله تعالى في هذه الآية إدريس بثلاث صفات:
الوصف الأول والثاني:{ إنه كان صديقا نبيا} ، فهو صديق لا يقول إلا حقا ، ويصدق الحق وينفذه ولا يتردد في تنفيذه ومعه الإذعان له من غير تململ ، بل باطمئنان ورضا وقبول ، وكان نبيا قد كلف بتبليغ رسالة به .
الوصف الثالث:أن الله تعالى رفعه منزلة عالية ، وقد عبر سبحانه وتعالى من ذلك بقوله:{ ورفعناه مكانا عليا 57} ، والرفعة هنا معنوية ، والمكان المراد به منزلة عليا ، وقد زعم بعض المفسرين أن ذكر المكان يدل على أنها رفعة مادية ، ولا نرى وجها لتخصيص ذكر المكان بالرفعة الحسية ، فإن ذلك تخصيص من غير مخصّص قام الدليل عليه ، وإنما نقول:إنها نعمة من الله تعالى على عبده ونبيّه الصديق الأمين لأمر اقتضى ذلك في علمه المكنون ، ولم يبينه لنا فحق علينا أن نقول ما نعلمه ، ونسلم بصدق ما لم نعلمه ، والله هو العليم المحيط بكل شيء علما .