كان التحدي من الله سبحانه وتعالى وكان العجز منهم ، وقد كان التحدي يطالبهم بأن يجمعوا من يشاءون ومن يستطيعون جمعه من الأنصار والمقاويل ليقولوا ، ولكنهم عجزوا لا بصرف الهمم ، ولكن لعجزهم ، فكان الإعجاز في ذات القرآن لا بصرف الأفهام كما ادعى المقلدون من الفلاسفة وبعض علماء الكلام .
وإنه بمقتضى الحكم السليم والمنطق المستقيم أنهم إذا عجزوا ذلك العجز الصارخ أن يذعنوا للحق الذي جاءهم ؛ ولذا قال تعالت كلماته:{ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا بمثله ، أو بسورة من مثله ، بعد أن تتضافروا وتتعاونوا ، وتدعوا من استطعتم أن تدعوه ، ومع ذلك تعجزون عن أن تأتوا فاعلموا أن ريبكم لا موضع له ، وأنه شك حيث يجب اليقين ، وعناد حيث يجب التسليم ، وعليكم أن تتخذوا الإيمان وتدخلوا في الإسلام ، وتتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة التي تعبدونها تحقيقا لقوله تعالى:{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( 98 )} [ الأنبياء] .
فقوله تعالى:{ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} جواب الشرط في ظاهر اللفظ ، وهي تطوي في ثناياها كلاما هو بمنزلة السبب لهذا الجواب ، تقديره:فإن لم تأتوا بمثله فدعوا عنادكم ، وصدقوا بالحق الذي جاءكم ، وبذلك تتقون النار التي يكون وقودها أنتم والحجارة التي تعبدونها ، وإن جواب الشرط على هذا إنذار بعد ذكر البرهان على الحق .
الوقود هو ما تستعر به النيران وتشتعل ، وذكر الحجارة التي لا تنفع ولا تضر تنديد بهم وبعقولهم التي تعبد ما لا ينفع ولا يضر ، ويضل ولا يهدي .
وقوله تعالى:{ ولن تفعلوا} جملة معترضة بين الشرط وجوابه ، وهي مسارعة إلى بيان عجزهم ، لأنه من الله ، وجعله الله تعالى فوق قدرة البشر ، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لا يستطيعون ، فكانت هذه الجملة الاعتراضية لتسجيل العجز المطلق ، ونتيجته وهي أن يتقوا النار التي أعدت وهيئت للكافرين الجاحدين المعاندين للحق ، وهذه الآية الكريمة كانت في سورة مدنية ، وهي تدل على استمرار التحدي بالقرآن في المدينة . كما تحدى به في مكة ، وكما يتحدى الأجيال كلها من بعد ذلك .
لقد تحداهم الله تعالى في سورة مكية مثل قوله تعالى في سورة هود:{ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( 13 ) [ هود] ، وقال تعالى:{ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ( 37 ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين( 38 ) [ يونس] .
وقال تعالى في سورة القصص:{ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ( 49 )} [ القصص] وندع الكلام في أسباب إعجاز القرآن ، فقد خصصنا له كتابا ، وصلنا فيه إلى سبب الإعجاز بقدر طاقتنا .