{ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات
تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة
رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها
ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ( 25 )} .
بعد أن أشار سبحانه إلى ما أعد للكافرين ، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة التي كانوا يعبدونها ، فتلك حصب جهنم ، وقد أعدت تلك النار للذين يكفرون بالوحدانية وينكرون الرسالة الإلهية ، والعصاة يقيمون فيها بقدر معاصيهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى بعفوه وغفرانه ورحمته .
بعد هذا ذكر سبحانه ما أعده للمتقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهكذا يقرن الله ترهيبه بترغيبه ، فهو يرهب أهل الجحود بالإنذار الشديد ليقرع الحق أسماعهم ، بعد أن سلك بهم طريق الحجة والبرهان ، وبيان القسطاس المستقيم ، ولكن إذا لم يدخل إلى قلوبهم كانت العاقبة ما يستقبلهم من عذاب شديد .
ومن أشد العذاب أن يروا مآلهم ، ومآل أهل الإيمان ، فهم بسبب عنادهم معذبون سلبا وإيجابا . . معذبون سلبا بحرمانهم مما جزى به أهل الإيمان من جنات ونعيم ، ومعذبون إيجابا بعذاب الجحيم .
{ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} بشر فعل أمر من التبشير ، وأصله من البشارة ، وأصلها الخبر الذي يجيء المبلغ به فتبدو آثار السرور على بشرته ، فهو الخبر بالأمر الذي يسر ولا يضر ، ويكون أول الخبر بالسرور ، وصاحبه يسمى البشير:{ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا . . . ( 96 )} [ يوسف] والنبي صلى الله عليه وسلم هو البشير النذير ، الذي يبشر أهل الحق واليقين ، وينذر أهل الجحود والإنكار .
وقد تطلق على سبيل المجاز كلمة التبشير في مقام التهديد والإنذار كقوله تعالى:{ فبشرهم بعذاب أليم ( 21 )} [ آل عمران] وهذا على سبيل السخرية والتهكم ، كأنهم يترقبون ما يسرهم ، فيجيء الخبر بما يضرهم ويسمى باسم البشارة تهكما بهم ، وإشارة إلى أن ذلك ما يجب أن ينتظروه ويترقبوه ، والله محيط بهم .
وقوله تعالى:{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فيه إشارة إلى سبب البشارة ، لأن التعبير باسم الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم ، فالإيمان والعمل الصالح هما السبب في البشارة ، أو هما السبب في الجزاء بأن تكون لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وثمرات الجنة المتشابهة المختلفة الطعوم .
والإيمان هو التصديق والإذعان بالقلب ، وأن يصدق المؤمن بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يصدق الرسول في كل ما جاء به مذعنا له ، مصدقا بأنه من عند الله تعالى ، والإسلام هو إعلان الإيمان ، والإذعان لأحكام الإسلام ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( الإسلام علانية ، والإيمان بالقلب . . ){[62]} ولقد حدث في أثناء الدعوة المحمدية ، وتبليغ الرسالة ، أن كان بعض الأعراب يعلن إتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن القلوب لم تذعن إذعانا كاملا ؛ ولذلك قال الله تعالى عنهم:{ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . . . ( 14 )} [ الحجرات] ولقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:( الإسلام علانية والإيمان في القلب . قال:ثم يشير إلى صدره ثلاث مرات ويقول:التقوى هاهنا ، التقوى ها هنا ){[63]} .
ولقد ذكر الله مع الإيمان العمل الصالح ، فقال:{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} والعمل الصالح هو العمل الذي يصلح به الناس وتستقيم جماعتهم ، وتأتلف قلوبهم ، ويكون فيه صلاح الأرض ، ولا يكون فسادهم ، وهو الذي يسوده الإيثار ، فحيث كان وجد الائتلاف ، ومع الائتلاف الخير والقوة ، ولا يكون فيه الأثرة ، فإنها حيث كانت وجدت الفرقة ، ووجد الانقسام وذهبت القوة .
ويشمل العمل الصالح الصلوات والزكوات ، والصيام والحج ، كما يشمل كل خير يقدم للمجتمع ، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( خير الناس أنفعهم للناس ){[64]} .
ولا شك أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الصادق ، والإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى ، والطاعة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن هل يزيد الإيمان بالعمل الصالح ، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه ؟ وهي قضية يخوض فيها علماء الكلام من حيث إن الإيمان يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص ، وأنه حقيقة واحدة ، وهي التصديق والاعتقاد الجازم ، والإذعان المطلق لله ولرسوله ، وتلك لا تزيد ولا تنقص .
ولا نريد أن نخوض في ذلك . ونقول مقررين حقيقتين ثابتتين .
إحداهما:أنه قد جاء في النصوص القرآنية أن الإيمان يزيد ، فقد قال تعالى:{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ( 2 )} [ الأنفال] وقال تعالى:{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( 124 )} [ التوبة] .
وهكذا نرى في صريح القرآن أن الإيمان يزيد ، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق ، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لا تزعزعه الرياح ، أو راسيا ثابتا ، كالجبال ، ولا شك أن العمل بموجبه يوثقه ، ويؤكده ، وأن ترك العمل يجعله يجف ، وإن كان لا يموت ولا يذهب وإن الجزاء يكون على الإيمان وللعمل جزاؤه . والحقيقة أنه وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان ، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاه قول لا إله إلا الله ، والحياء شعبة من الإيمان ){[65]} .
وإن عد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته ، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان ، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم .
ومهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل ، فإن العمل يزكي الإيمان ويقويه ، وهو كالماء ، والغذاء ، يتغذى منه الإيمان ويقوى ، وإن الإيمان من غير عمل يجف ، ولا يكون مثمرا منتجا ، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة ، لا يزرعها ، ولا يثمرها .
ثانيهما:أن المؤمن ، وإن لم يعمل ، خير من الكافر ، وإنه وإن أهمل فقد يعمل ، والله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها ، وهو خير كله إذا عمل ، واتقى وآثر الحياة الآخرة على الدنيا .
وإن الجزاء الذي بشر به الذين آمنوا وعملوا الصالحات{ أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} الجنات الحدائق التي تشتمل على نخيل وأشجار متكاثفة ، حتى تستر الأرض وتجنها ، فهي جنات ، لأنها تستر ما تظله ، والضمير في تجري من تحتها الأنهار ، يعود على أشجارها ، وإن لم تذكر باسمها ، فكلمة جنات متضمنة لها ، إذ لا تتحقق الجنات إلا بأشجار متكاثفة ملتفة ، والجريان للماء ، لا للأنهار ؛ لأن الأنهار هي ما يشق في الأرض ليجري فيه الماء فهو من إطلاق اسم المحل ، وإرادة الحال ، مثل قوله تعالى:{ فليدع ناديه ( 17 )} [ العلق] ، وإن الناظر للماء وهو يجري منسابا في الأرض لا يرى النهر ولكن يرى الماء ، فكأن النهر اختفى في الماء ولا يرى غير الماء .
وإن هذه الجنات فيها بهجة للناظرين ، فهي متعة للأنظار ، وبهجة للنفوس بذاتها ، وفيها ثمرات شهية من كل شيء ، وكما قال تعالى في آية أخرى:{ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ( 15 )} [ محمد] .
وإن الثمرات متشابهة في اللون ، وإن كان الطعم في الذوق متغيرا ، وهي دائمة متجددة ، مستمرة لا تمل ولا تسأم بل فيها المتعة المتجددة ؛ ولذا قال تعالى:{ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} أي أن هذه الثمرات تجيء إليهم رزقا من الله تعالى من غير جهد يبذلونه ، ولا عمل يعملونه ؛ ولذلك قال تعالى:{ رزقوا} وأكده سبحانه بقوله تعالى:{ رزقا} أي أنه يجيء بأمر الله وإنعامه رزقا حسنا من غير أن يقوموا بمجهود فيها ، فهي دار الجزاء والنعيم ، فإذا كانوا لم يعملوا في الجنات فهو جزاء وفاق لما سبقوا به من عمل صالح ، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، فهو جزاء لمجهود سابق ، وثمرة لإيمان وعمل صالح .
وهم يقولون:هذا الذي رزقنا من قبل ، وهذا يدل على التجدد المستمر ، ويدل على التشابه في الشكل ، فمعنى النص:هذا الذي رزقناه في الجنة مثل الذي رزقناه من قبل في شكله ، ولكنهم يجدون الطعم متغيرا ، وسبحان خالق كل شيء ؛ ولذا قال تعالى:{ وأتوا به متشابها} في شكله ، وإن تغير طعمه .
وهناك فوق متعة الطعام ، والتمكن من كل الخير متعة الأنس بالحياة الزوجية ، ولذا قال تعالى:{ ولهم فيها أزواج مطهرة} الأزواج جمع زوج ذكرا كان أو أنثى ، فهي تطلق على المرأة المتزوجة ، كما تطلق على الرجل المتزوج ، وإلحاق التاء بها بالنسبة للمرأة قليل نادر ، ولكنه صحيح ؛ ولذلك قال عماربن ياسر في عائشة أم المؤمنين عندما أخرجت في واقعة الجمل:"إنها زوجته في الدنيا والآخرة ، ولكنه البلاء"{[66]} .
ومعنى مطهرة أنها خالية من الدنس النفسي المعنوي والجسدي ، فهن طاهرات مطهرات من كل رجس .
وقد يقول قائل:إن المرأة متعة الرجل في الآخرة ، ونقول إن الجزاء لهما معا ، فلها كل الثمرات التي للرجل والمرأة ، فهو متعتها وهي متعته ، إن صح هذا التعبير ؛ ولذلك صرح القرآن الكريم بأن الجزاء لهما ، فقال تعالى:{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ( 194 ) فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض . . ( 195} [ آل عمران] .
وإن ذلك النعيم دائم لا ينغصه توقع زواله ، بل النعمة كاملة بدوامه ؛ ولذلك قال تعالى:{ وهم فيها خالدون} هذا ويجب أن ننبه إلى أن نعيم الجنة مادي حسي ؛ لأن ذلك هو ما تدل عليه الألفاظ ، ولا يصح تأويلها بغير سند من الشرع ، ولا حجة ، ولا دليل ، ولا نؤولها بعقولنا المجردة ، فإن ذلك يعد إنكارا للغيب الذي قرر الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم أن أول صفة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب ، وأن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب .
ولكن ورد عن ابن عباس أن الألفاظ التي وردت في نعيم الجنة ليست على حقيقتها التي نراها ، فثمراتها ، ورمانها وعسلها ولبنها ، وخمرها ، ليست هي خمرنا ، وأن نعيم الجنة فوق علمنا ، ولكن الله تعالى قرب لنا نعيم الجنة بما يشبهها في استعمالنا ، ولكنها مادية حسية ، ويتحقق بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ){[67]} .
الأمثال في القرآن وموقعها في النفوس