بين الله تعالى حال المنافقين ، وضرب سبحانه وتعالى مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه ، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا ، وما إن يتم له أن ينتفع حتى تنطفئ ، ويذهب الله تعالى بنورهم فلا يبصرون ، وشبههم ثانيا بحال قوم أصابهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إن ماء الحياة يجيء إليهم ، ولكن لسوء حالهم وفساد قلوبهم تنعكس بين أيديهم الأمور ، فلا يدركون . . إلى آخر ما بين سبحانه وتعالى .
وإنه من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام ، وتصويرا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب ، والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم ، فيعتبر بها ، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يرى ويشاهد ، ولقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله . وشبه الأوثان التي يعبدونها وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها ، وأخيلة من القدرة تخيلوها .
ولقد قال الله تعالى في الذباب:{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( 73 ) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ( 74 )} [ الحج] .
فهو في هذا المثل بين أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا ، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم ، وأنهم لا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا .
وفي سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا ، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها ، فقال تعالى:{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ( 41 )} [ العنكبوت] أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لا تدرك إلا المحسوسات الدانية ، ولكن المعاند الجاحد ، والعاجز الحسود يقلب الحسنات ، ويتهكم على الحقائق الرائعة ، فتكلموا متعجبين مستغربين من ضرب الأمثال بالبعوض والذباب ، وكأنهم إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عجزا صارخا أخذوا يثيرون الشك حول بعض أجزائه وما اشتمل عليه ، فاختاروا الأمثال موضعا لإثارة الاستغراب والعجب يتوهمون أن ذلك يضعف من تأثيره .
لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى:{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} ، ضرب – معناها ذكر ، والمثل هو الحال التي تشبه حالا قائمة قدرت أو وقعت ، فمعنى ضرب المثل بيان الحال التي تشبه وتمثل بحال واقعة ثابتة ، ويقول علماء البلاغة ، إن للمثل مضربا وموردا فالمورد هو الحال التي تشبه بها القول ، والتي صدر فيها ، والمضرب هو الحال التي يشبه الحال التي وقعت أو هي ثابتة .
ومهما يكن فالمثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت ، والاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم ، وهو أساس من أسس الأخلاق ؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:( الحياء خير كله ){[68]} ، ولكن هذا المعنى يليق بالناس ، ولا يليق بالذات العلية ؛ ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه ، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك ، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه .
والمعنى أن الله تعالت كلماته ، وتسامى قرآنه ، لا يترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا ، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس ، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس ، وتوضيحا للأمور ، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقي البيان بقلب سليم ، وإدراك مستقيم .
والبعوضة أصغر من الذبابة ،{ ما} هي التي تسمى في عرف النحاة نكرة تامة بمعنى شيء ، فهي شيء مبهم ، وإذا جاء بعد نكرة كانت للدلالة على إيقاعها في الإبهام ، فالمعنى بعوضة أيا كانت هذه البعوضة صغيرة أو كبيرة حقيرة أو خطيرة ، فالله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب الأمثال بالبعوضة أو ما دونها .
وإن الكلام البليغ يضرب المثل للحقير ، بحقير ، والمثل للعظيم بعظيم ، فيضرب به أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لا تقوى على النظر ، ولا يمكن أن تكون معقولة ، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت ، وإن كان نسجها محكما ، يدل على حكمة اللطيف الخبير ، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط .
وقد يكون ضرب المثل للبعوضة ، ببيان إحكام تكوينها ، وبديع خلقها ، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه ، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه .
ونرى من هذا أن التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف ، ببعض الضعف في نواحيها ، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها ، من حيث إنها لا تقوى على نظر مستقيم في أمرها ، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت .
وإن هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم ، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد .
وإن الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقي الناس له ، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرا متعظا مؤمنا يزداد إيمانا ، والقلب المضطرب الذي يعاند ويكابر ، يثير الاستغراب والعجب ، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارا حول الحقائق الثابتة .
ولذا يقول سبحانه:{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} قوله تعالى:{ فأما} هي للتفصيل ، أي تفصيل حال الذين يتلقون الأمثال المضروبة لهداية المتقين ، وهي في معنى أداة الشرط بمعنى مهما يكن من شيء والمعنى مهما يكن من الأمر في المثل الذي ساقه الله تعالى فالذين آمنوا وأذعنوا للحق إذا بدا لهم يعلمون أي يعرفون جازمين بالدليل القاطع أنه الحق أي الأمر الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، ويرشحون لذلك الإيمان المذعن والعلم الجازم بأنه من ربهم أي من الله العلي القدير الذي يربهم ، ويدبر أمور الوجود بحكمته ، وقوته ، وبذلك يزدادون إيمانا .
وأما الذين كفروا فيظهرون استغرابهم بل استنكارهم ، فيقولون:{ فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا} ؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل ، والتجاهل يؤدي إلى الجهل ، وعمى البصيرة يؤِدي إلى العمى في طرق الإدراك . إنهم يعرفون المثل ومضربه ، وما تشبه به من حالهم ، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها ، ولكن لاعتقادهم الواهن في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا ، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم ، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال .
و"ما"الاستفهامية ، و"ذا"موصول بمعنى الذي ، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل ، أو نقول:إن ماذا كلها للاستفهام ، وهي مركب يراد به الاستفهام ، والفرق إعرابي ، ولا مؤدى له ، فالمعنى واحد .
وإن هذا الاستغراب والإنكار الذي سبق إليهم ، سببه أمران:
الأول:ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أثر .
والثاني:غطرستهم وعنادهم ، وحبهم لبقاء سلطانهم ، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا .
وقوله تعالى:{ بعوضة فما فوقها} يراد بالفوقية الزيادة في القوة على توجيه بعض المفسرين ، ويكون المؤدى أن البعوضة أضعف الحيوان ، وأنها يصح أن تكون ابتداء لضرب الأمثال من أدنى الأحياء إلى أعلاها ، وهذا تخريج بعض المفسرين ، وهو صحيح في ذاته ، ويفسر بعضهم الفوقية بمعنى الزيادة في الصغر ، وكأنه يتصور أن في الأحياء ما هو أصغر من البعوضة ويقرأن الفوقية في كل شيء بما سبقه ، فإن كان ضرب المثل للصغر ، فالفوقية في الصغر أي أكثر صغرا منها .
ونحن نرى أن الأول هو الأظهر ، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لا يقتضي أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم ، فإن القرآن أعلى البيان عند الله ، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم .
وإن المثل الذي يسوءهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم ، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم ؛ ولذلك قال سبحانه:{ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين} . أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال ، وكثيرا من الناس ، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون ، فيلوون رءوسهم فيزدادون ضلالا ، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد .
وأسند الإضلال إلى الله تعالى ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل ، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق ، وإيغالا في الباطل ، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى ، ويبينه فمن عاند وجحد ، وسار في طريق الضلال ، وكلما سار فيه أوغل ، حتى يزداد ضلالا – كالذي يضرب في الأرض ؛ إن سار في الطريق الجد وصل ، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه .
وأما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به ؛ ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم:{ ويهدي به كثيرا} هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم .
وإن أولئك المؤمنين سلمت مداركهم ، واستقامت عقولهم ، فأدركوا معنى الحقيقة ، فكلما جاء ما يؤكدها ويبينها ازدادوا هداية ، وساروا على الجدد ، وأما الآخرون فهم يخرجون عن سنن الفطرة ، وما يوجه إليه الإدراك الصحيح ؛ ولذلك قال تعالى:{ وما يضل به إلا الفاسقين} أي الخارجين عما توجبه الفطرة ، الذين شاهت عقولهم ، وانعكست الحقائق أمامها ، فساروا يدركون الأمور عكس حقيقتها .
والفاسق في أصل معناه اللغوي الخارج عن الطاعة ، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها ، ويقال للفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للفساد ، ويطلق على الحشرات والمؤذيات فواسق ، ولقد روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم:الحدأة ، والغراب ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور ){[69]} .
والفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق ؛ وذلك لأنه خرج من مقتضى الفطرة ، والعقل المستقيم ، فهو قد كفر بالله ورسوله ، وبالأوامر والنواهي ، وإنها دين الفطرة ، كما قال تعالى:{ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 30 )} [ الروم] .