مناسبة النزول:
جاء في أسباب النزول عن ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب اللّه سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني قوله:] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً[،وقوله:] أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ[ قالوا: اللّه أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال ،فأنزل اللّه هذه الآية .
وجاء في رواية عطاء عنه ،قال: وذلك أنَّ اللّه ذكر آلهة المشركين فقال:] وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً[ [ الحج:73] ..وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ،فقالوا: أرأيتم حيث ذكر اللّه الذباب والعنكبوت ،في ما أنزل من القرآن على محمَّد ،أي شيء يصنع بهذا ؟فأنزل اللّه هذه الآية .
قد يكون السبب في نزول هذه الآية هو ما ذكر في هذا الحديث ،وقد لا يكون ذلك هو السبب ،فإننا لا نثق بالكثير مما ينقل عن أسباب النزول ،ولا سيما مع اختلاف الرِّوايات ،كما في هذا المورد .
] إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ[.
إنَّ الآية توحي بوجود حالة نفسية تحاول أن تُفصح عمّا في داخلها من حالة ريب أو اعتراض على ما يورده اللّه من الأمثلة المتعلّقة بصغار الأمور وكبارها .وربَّما أمكن للإنسان أن يستوحي منها وجود موقف مضادّ ،على أساس فكرة خاطئة تربط بين عظمة المتكلّم وحجم القضايا التي يتحدّث عنها ،فكانت هذه الآية التي ترفض هذه الفكرة ،وتقرر مبدأ ضرب المثل ،في صغير الأمور وكبيرها ،بطريقة حاسمة ،كأسلوب قرآني بارز في أغلب السور ،بعيداً عن كلّ وهم يعتبر ذلك بعيداً عن مقام اللّه وعظمته ،لأنَّ دور المثل هو أن يقرّب الصورة للنّاس ما يعيشونه في حياتهم ،وفي ما يمارسونه من أعمالهم ،لتقترب بذلك الفكرة التي يُراد بها هدايتهم للحقّ من غير فرق في ذلك بين الصغير والكبير ،لأنَّ القضية ليست قضية صاحب المثل ،بل هي قضية الفكرة التي يثيرها في حياة النّاس ،وفي أفكارهم ،مما يدعو المتكلّم إلى أن يتلمّس كلّ الأشياء التي تشارك في توضيح الصورة وتقريب الفكرة .
وعلى ضوء ذلك ،لم يكن أسلوب ضرب الأمثال بدعاً من الأساليب ،بل هو نموذج من الأساليب العامة التي يتداولها المتكلّمون في الإقناع والهداية والتوجيه للنّاس ،من أجل أن تجد الكلمة مجالاً في وجدانهم إذا واجهوها من موقع المسؤولية ،فترى المؤمنين يتقبّلونها بإيمان وإذعان ،لأنهم يعرفون كيف تتحرّك الكلمة ،وكيف تتجه من موقع الفكر المتأمّل ،فلا يخالجهم شك في طبيعتها وفي عطائها .
أمّا الكافرون الذين لم تنفتح قلوبهم للحقّ ،ولم يعيشوا مسؤولية الكلمة في حياتهم ،فلا يحاولون أن يتفهموا وجه الحقّ في ذلك ؛بل يعملون على التهرب من مواجهة المسؤولية بإثارة الاعتراضات والتساؤلات التي لا يريدون بها إلاَّ المشاغبة والتشكيك بعيداً عن أية رغبة في المعرفة ،أو نزوع إلى الإيمان ،فيثيرون القضية في سؤال يوحي للآخرين بأنهم لم يفهموا ماذا أراد اللّه بهذا المثل .
وقد نستوحي من خلال هذا التساؤل أنهم يريدون التهرب من الحقائق الصارخة التي يجسّدها المثل ،لا سيما في النيل من معتقداتهم وتضليلاتهم وكفرهم ونفاقهم ،فيواجهونه مواجهة عدم الفهم إمعاناً في الهروب من تحدّيات الحقّالذي تمثّله الرسالةللباطل المتمثّل في خطواتهم الكافرة والضالة ،تماماً كما نشاهده في بعض الجماعات الكافرة التي تثير الضباب أمام الحقائق الدامغة بطرح الأسئلة التي تجعل القضية تتحرّك في أجواء بعيدة عن الحوار الجديّ العميق .
ولكنَّ اللّه ،سبحانه وتعالى ،يواجه هذا التساؤل بالجواب الحاسم ،فيوحيمن خلال الآيةبأنَّ دور المثل هو إقامة الحجّة للحقّ على النّاس ،باعتباره أسلوباً حياً من أساليب الاحتجاج للفكرة ،فأمَّا المؤمنون فيتقبلونها بوعي لأنهم ينفذون إلى أعماقها ،فتنفتح لهم منها آفاق المعرفة والإيمان ،فيهتدون بها ،وأمّا الكافرون فيهربون منها فيضلّون بها .ثُمَّ حدّد لنا هؤلاء الذين يتجهون إلى الضلال أمام هذه الأمثال ،فوصفهم بالفاسقين الذين يتجاوزون الحقّ إلى غيره .
أمّا نسبة الضلال والهدى إلى المثل الذي ضربه اللّه للنّاس ،وأراد أن يضل به الكثير ويهدي به الكثير ،على حسب مضمون الآية ،فلعل الوجه فيه هو أنَّ وجود الحجّة يحدّد للنّاس الموقف الذي يقفونه من قضايا الكفر والإيمان والهدى والضلال ،فيهتدي به من ينسجم معه ،ويضلّ به من يبتعد عنه ،تماماً كما يقول النّاس إنَّ التجربة والامتحان يسقطان النّاس أو ينجحانهم ،مع أنَّ القضية هي أنَّ النّاس يسقطون أمام التجربة بالابتعاد عن أسس النجاح ،وينجحون معها بالاقتراب من ذلك ،فهي السبب لكلا الموقفين ،باعتبار أنها القاعدة التي أطلقت الموقف هنا وهناك ،وبذلك تبتعد الآية عن ملامح الفكرة الجبرية التي تربط الضلال باللّه بشكل مباشر .
] إِنَّ اللّه لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا[ أي: لا يدع ضرب المثل استحياءً من حقارة الموضوع الذي يتعلّق به لعدم تناسبه مع موقع العظمة في ذاته ،لأنَّ طبيعة المثل ،في موضوعه ،تتصل بالفكرة التي يُراد تقريبها للذهن الإنساني ،من خلال الصورة الحسية المتمثّلة في وجدانه ؛فقد تفرض حديثاً عن الأشياء الحقيرة لأنها أكثر تمثيلاً للفكرة ،كما هي البعوضة التي ضربها اللّه مثلاً لعجز المستكبرين الذين يضعون أنفسهم في موقع الآلهة ،فلا يملكون أن يخلقوا الذباب ،أو يسترجعوا ما يسلبهم الذباب من الأشياء المتصلة بحياتهم مما يحافظون عليه[ 2] ،وكما هي الحال في العنكبوت الذي ضرب اللّه مثلاً ببيته تمثيلاً للبيوت التي لا ترتكز على أساس ،وقد تفرض حديثاً عن الأشياء الكبيرة كما في مثال:] كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ[.
] فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ[ باللّه وانفتحوا على آياته وتدبّروا معانيها ،وعرفوا مقاصدها وإيحاءاتها ،وانطلقوا في وعيهم الفكري إلى أعماقها ،فلم يتوقفوا عند البُعد السطحي لها ،] فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ[،من خلال ما يستوحونه منها في ما يريد اللّه لهم أن يفهموه ويؤمنوا به ،لأنَّ إيمانهم يربطهم بالحقائق الإلهية التي توحي بها آياته التي أنزلها في كتابه ؛] وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ[ وابتعدوا عن وعي الحقّ ،واتخذوا من الرسالة والرسول موقفاً سلبياً متمرّداً ،وواجهوا الموقف بالسخرية والعبث وأساليب اللعب ،وحرّفوا الكلمة عن موضعها ،وأبعدوا الآيات عن معانيها العميقة ،] فَيَقُولُونَ[،تعليقاً على الأمثال المتعلّقة بالأشياء الحقيرة كالبعوضة والعنكبوت ،] مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً[ أي: ما الذي يريده اللّه بهذا المثل ،وكيف يتناسب مع عظمته ؟ما يؤدي إلى التشكيك بصدوره منه ،لتنتهي المسألة إلى الشك بالنبيّ محمَّد ( ص ) ؛] يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا[ من الذين لا يقفون منه موقف المتدبر الواعي الذي يواجه القضايا من خلال عناصرها الطبيعية في مداليلها وإيحاءاتها ،بل يقف منها موقف المعقّد الجاحد المتمرّد الذي يحاول أن يجد في الإيجاب سلباً ،وفي القوّة ضعفاً ،وفي الحقّ باطلاً ،فيتحرّك في درب الضلال الذي سلكه بسوء اختياره وعدم تفاعله مع الخطّ الذي يقوده نحو الهدى ؛] وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا[ من المؤمنين الذين آمنوا باللّه ورسله ورسالاته وكتبه ،فاهتدوا بآياته التي فهموها كما يجب أن يفهموها ،واستوحوها في كلّ ما تختزنه من إيحاءات الهدى في كلّ دروب الحياة وآفاقها وتطلعاتها ؛] وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ[ الخارجين عن عبوديتهم للّه والتاركين طاعته ،والمنحرفين عن خطّ الاستقامة في دروب هداه .
أمّا نسبة الضلال والهدى إلى اللّه من خلال ضربه المثل ،فقد يكون الأساس فيه هو أنَّ المثل الذي ضربه اللّه كان السبب الحيّ لحركة التجربة الإنسانية في طبيعة الاختيار الخيّر أو الشرّير ،فلو لم يطلق اللّه سبحانه هذا المثل الذي يوحي بالمعاني التي يريد للإنسان أن يفهمها ويؤمن بها ،لما انطلق الضالّ نحو الضلال بإرادته ،ولما تحرّك المهتدي نحو الهدى باختياره .وفي ضوء ذلك ،فإنَّ علاقة اللّه بالضلالة والهدى ،لا تعطل الإرادة الإنسانية في الاختيار المسؤول ،كما أنَّ حركة الإنسان في المسألة لا تبعد اللّه عن حياة عباده في أقوالهم وأفعالهم على أساس القاعدة العقيدية الواردة عن أئمة أهل البيت ( ع ): «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين » .