] الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[.هذه هي بعض ملامح الفاسقين التي أراد اللّهمن خلال الآيةأن يجسدها في وعي النّاس ،ليعرفوا كيف ينطلق الفسق في حياة بعضهم ،ليهدّم الركائز الأساسية التي يستند إليها كيان المجتمع .أمّا أبرز هذه الركائز فأمور ثلاثة:
1الوفاء بالعهود والمواثيق ،لأنَّ ذلك هو الذي يؤكّد الثقة بين أفراد المجتمع ويحفظ لهم تماسكهم الاجتماعي .
وعهد اللّه هو الأساس لكلّ هذه العهود ،لأنها ،في طبيعتها ،منطلقة من إيحاءاته ،وفي قيمتها ،منفتحة على الالتزام به .ولذلك ،فإنَّ نقض أيّ عهد يريد اللّه للنّاس أن يفوا به هو نقض لعهد اللّه ،وذلك في الالتزامات الشرعية التي ألزم اللّه بها عباده في نطاق العلاقات الإنسانية ،من خلال ما فرضه من الحقوق المتبادلة بينهم ،أو في الالتزامات الذاتية التي يلتزمها النّاس على أنفسهم في معاملاتهم ومواثيقهم ،في قضاياهم العامة والخاصة ،لأنَّ اللّه أراد لهم الوفاء بالعقود ،فلا بُدَّ للنّاس من أن يقفوا عندها في كلّ خصوصياتها والتزاماتها ،لأنَّ اللّه أراد للإنسان في الحياة أن يحرّك وجوده في علاقاته به وبالإنسان الآخر وبالكون من حوله ،من خلال الالتزام الوجودي الذي ينطق في كلّ حركته وحيويته بالعبودية للّه ،فقد ركّب فيه العناصر التي تصرخ في ذاتها بوحدانيته وتشهد بربوبيته ،وهذا ما نطلق عليه الميثاق الوجودي ،ومن خلال الالتزامات التفصيلية في مسؤولياته مع النّاس ،ومع الحياة العامة والخاصة ،التي تنطلق طاقاته لتمثّل الالتزام الواقعي بانفتاحه على الآخرين ،وعلى مفردات الواقع التي هي بحاجة إليه ،وهذا ما يعني بالدرجة الأولى إعطاء العهد من نفسه على أن يكون الإنسان المسؤول عن كلّ شيء يتكامل معه أو يحتاج إليه .
وهكذا نجد أنَّ اللّه يطالب عباده بقوله تعالى:] وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ[ [ البقرة:40] فهناك عهد بين اللّه وبين عباده بأن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئاً ،وأن يطيعوه ولا يعصوه ،وأن يستقيموا على خطّه وشريعته التي تمثّل الاستقامة على خطّ توحيده ،ليرعاهم ويرزقهم ويرحمهم ويمنحهم ثوابه وجنته ،وهذا ما نتمثّله في قوله تعالى:] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ[ [ يس:6061] .وقال تعالى:] وَكَانَ عَهْدُ اللّه مَسْؤولاً[ [ الأحزاب:15] وقال تعالى:] وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُواْ[ [ الأنعام:152] وقال:] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ[ [ الرعد:20] فدعا إلى الوفاء بعهده في شمولية الالتزام بخطّ العبودية المنطلق مع التوحيد في كلّ خطوات الإنسان وتطلّعاته في الحياة .وتحدّث عن الذين] يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه[ [ البقرة:27] وعن الذين] أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم[ [ البقرة:100] .
وتحدّث عن نفسه أنه الإله الذي لا يفي أحد بعهوده كما يفي بعهده:] وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه[ [ التوبة:111] وقال تعالى:] فَلَن يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ[ [ البقرة:80] .
ودعا النّاس إلى الوفاء بالعهد بقول مطلق:] وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً[ [ الإسراء:34] وتحدّث عن الصفات الإيجابية في النّاس الذين يرضى عنهم فقال:] وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ[ [ البقرة:177] ،وقال تعالى:] مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَهَدُواْ اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً[ [ الأحزاب:23] .
وهكذا نجد أنَّ اللّه يريد جعل حركة الإنسان في الحياة ،حركةَ التزام بينه وبين خالقه ،وبينه وبين النّاس ،وبينه وبين الحياة ،ليتحرّك الإنسان من موقع الإحساس بالمسؤولية المنفتحة على كلّ خير في الحياة ،ليجد أمامه عهداً من اللّه بأن يتعهده بكلّ رحمته ولطفه ورعايته في الدنيا والآخرة ،ما يجعل لديه الطمأنينة الروحية والسكينة الحياتية ،ويبتعد عن الشعور باللامبالاة ،فهو الإنسان الملتزم بأن يقدّم طاقاته كلّها للنّاس وللحياة ،وأن يخضعها لإرادة اللّه تعالى الذي سخّر الحياة له ،وعاهده بأن يحقّق له ما يشاء في خطّ الحكمة ،والرعاية الربوبية ،في الدنيا والآخرة .
2المحافظة على الروابط الروحية والاجتماعية ،فإنها تشدّ أواصر المجتمع وتجعله وحدة متماسكة بعيدة عن أي انقطاع وانفصام في ما يريد من النتائج أو من الأرباح ،مع الإيحاءفي مثل هذه القضايابخسارة الإنسان لوجوده مما تفرضه خصائص الوجود في الحياة .وقد تكون الخسارة في إيحاءاتها العملية في الارتباط بينها وبين الكفر ،باعتبار أنه يبتعد بالإنسان عن الإحساس بالهدف الكبير للحياة التي أودعها اللّه فيه ،وبالمسؤولية الكبرى في تفجير طاقاته الإنسانية في سبيل حاجات الحياة والإنسان الآخر ،بحيث يعيش التكامل في وجوده مع النظام الكوني والإنساني ،وهذا هو الذي يوحي به الإيمان باللّه الذي يشعر معه الإنسان بأنَّ طاقته ليست حالة ذاتية له ،بل هي أمانة اللّه عنده ،فلا بُدَّ له من أن يحرّكها في الاتجاه الذي يجعل من حركتها في الوجود صلاةً روحية وجوديةً ترتفع به إلى المستوى الأعلى في درجات القرب من اللّه والسموّ في مدارج الكمال ،وهذا ما يخسره الإنسان في خطّ الكفر الذي يحوله إلى إنسان غير مسؤول في وجوده إلاَّ من خلال حاجاته الذاتية التي يختنق فيها في دائرته الضيقة .
3النزعة الإصلاحية التي تعمل على إصلاح ما فسد من حياة النّاس ،ومحاربة تجدّد الفساد وانطلاقه في المجتمع ،سواء في ذلك فساد العقيدة أو فساد السلوك والوجدان ،وهذا هو سرّ الإيمان في حياة المؤمنين عندما ينطلق في حياتهم ليقوِّي هذه الركائز ؛فهم يحفظون عهد اللّه في كلّ التزاماتهم ومواثيقهم في العقيدة والحياة ،ويصلون ما أمر اللّه به أن يوصل في علاقة الإيمان والقرابة والجوار وغيرها ،ويصلحون ما فسد في الأرض ،ويقفون ضدّ المفسدين ،وبذلك يتحوّل الإيمان والفسق إلى عنصرين فاعلين في بناء المجتمع أو تهديمه بدلاً من أن يكونا عنصرين ذاتيين يحكمان النوازع الفردية للإنسان .
وقد حاول المفسّرون البحث في تحديد عهد اللّه بين قائل بأنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد والعدل وتصديق الرسل ،وقائل بأنه وصية اللّه إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته ونهاهم عن معصيته ،وقد يتجه بعضهم إلى تحديد موضوع الآية بأهل الكتاب ،ليكون المراد بعهد اللّه ما أخذه عليهم في التوراة من اتّباع محمَّد ( ص ) ،وقد يبتعد بعضٌ بالآية عن ذلك كلّه ،فيعتبره إشارة إلى العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم مثل الذرّ ،كما وردت به القصة المعروفة ،وردّه بعضهم بأنهتعالىلا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهد لا يذكرونه ،ولا يعرفونه ،ولا يكون عليه دليل .
ولكنَّنا نميل إلى ترك الإفاضة في هذه التفاصيل ،لأننا نستوحي من الآية التركيز على الملامح العامة للسلبيات التي ينتجها الفسق في تشويه شخصية الإنسان في الحياة ،بعيداً عن التفاصيل ،لأنَّ القضية هي قضية الفارق بين نتائج الإيمان ونتائج الكفر في معطياتهما العامّة التي ترسم الصورة من بعيد .
نقض العهد والفساد في الأرض خسران للنفس:
] الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ[ الذي يتمثّل في إبداع وجودهم بالطريقة التي يتحمّل فيها الإنسان مسؤولية الخلافة في الأرض ،ممّا تحتاجه الحياة في نموّها وحركتها وتطوّرها ،بحسب حجمه ،الأمر الذي يجعل إفاضة الخلق عليه بهذه الطريقة عهداً تكوينياً أخذه اللّه عليه ،مع وعي الإنسان للحقائق التوحيدية من خلال العناصر الذاتية ،وانفتاحه على ما أوحى به اللّه إليه على لسان رسله من أوامره ونواهيه .] وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ[ في نسيانهم للّه ،وابتعادهم عن خطّه المستقيم الذي يؤدي إلى السير في دروب الفساد ،بما يثيرونه في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم من عوامل الفساد في الأرض ،على مستوى الواقع الاقتصادي الذي يفسدون به حركة المال في الإنسان ،والواقع الاجتماعي الذي يتحرّك فسادهم فيه ،ليؤدي إلى تمزيق المجتمع ،وتحللّه الأخلاقي ،وانهياره ،والواقع السياسي الذي يسقط تحت تأثير الظلم والعدوان الذي يعيش فيه النّاس ظلم الحاكم والحكم والقانون ،والواقع الأمني الذي يفتقد فيه النّاس من خلال هؤلاء الأمن في حياتهم الخاصة والعامة ،فتدبّ الفوضى عندهم ،ويسود الاضطراب وجودهم ،وهكذا ينطلق هؤلاء ليتحولوا إلى جهة مفسدة للحياة كلّها ،وللإنسان كلّه .] أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[ الذين خسروا أنفسهم في الدنيا ،عندما أبعدوها عن خطّ الاستقامة ،فعاشوا التخبط في خطواتهم العملية في السير على غير هدى ،وواجهوا المتاعب المتنوّعة في ذلك ،وخسروا مصيرهم في الآخرة ،في عصيانهم للّه وتمرّدهم عليه ،مما يستوجب دخولهم في النّار وبئس القرار .
وربما كان في تأكيد جانب الخسارة الأسلوب الإيحائي ،بأنَّ على الإنسان أن يحسب حساب الربح والخسارة ،من خلال النتائج الواقعية النهائية للأعمال ،لا من خلال النتائج الحسية الأولية لها ،ليدرس القضايا التي يتحرّك فيها من موقع الربط بين البدايات والنهايات ،والانفتاح على العمق لا على السطح .هذا مع ملاحظة أنَّ التعبير بالخسارة ،ينطلق من خسارة الوجود في خسارة الفرص السعيدة التي كان من الممكن أن يبلغها الإنسان إذا أخذ بأسباب الخير في الإيمان والعمل الصالح ،فلا يرد السؤال: كيف يتحدّث اللّه عن خسارة ما لا يملكه الإنسان ،باعتبار أنَّ مفهومها يعني فقدان ما لديه ؟لأنَّ الجواب عن ذلك بأنَّ المقصود هو أنَّ ما يملكه الإنسان قد يكون على مستوى الفعلية ،وقد يكون على مستوى امتلاك الإنسان للفرصة التي يحصل عليها .