{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ...}
تصف هذه الآية الفاسقين بنقض العهد ،والرجوع عن الإيمان بعد معرفته ،أو برفض آلة التوحيد والإيمان وهي مبثوثة في فطرة الإنسان .
وقال مقاتل بن سليمان: المراد بهم اليهود ( فقد نقضوا العهد الأول ،ونقضوا ما أخذ عليهم في التوراة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأن يؤمنوا بالنبيعليه السلاموكفروا بعيسى وبمحمدعليهما السلاموآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ) ( 63 ) .
آراء في تفسير عهد الله:
قال ابن كثير: ( وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ،فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه ،وأمره بما أمرهم به من طاعته ،ونهيه عما نهاهم عنه من معصيته ،وعلى لسان رسله ،ونقضهم ذلك وتركهم العمل به ) .
وقال آخرون: بل هو في كفر أهل الكتاب والمنافقين منهم ،وعهد الله الذي نقضوه ،هو ما أخذ عليهم في التوراة من العمل بما فيها ،واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق بما جاء به من عند ربهم ،ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ،وإنكارهم وكتمانهم علم ذلك عن الناس ،بعد إعطائهم الله الميثاق من أنفسهم ليبيننه للناس ولا يكتمونه .
فأخبر الله تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ،وهذا اختيار ابن جريررحمه اللهوهو قول مقاتل بن حيان ( 64 ) .
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق ،وعهده إلى جميعهم في توحيده بما وضح لهم من الأدلة على ربوبيته ،وعهده إليهم في أمره ونهيه ،ما احتج لرسله من المعجزات ،التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله ،الشاهدة لهم على صدقهم ،قالوا ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما ثبت لهم صحته بالأدلة ،وتكذيبهم الرسل والكتب ،مع علمهم أنما أتوا به حق ،وهو رأى حسن .
وقال آخرون: العهد الذي ذكرهتعالىهو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ،الذي وصف في قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا .( الأعراف 171-172 ) ،ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به ،حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره( 65 ) .
وهذه الآراء كما ترى قريبة من بعضها ،وقد تكون مرادة جميعها ،ولذلك يقول الأستاذ سيد قطب: ( وعهد الله المقصود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة: إنه عهد الفطرة المركوزة في طبيعة كل حي ..أن يعرف خالقه وأن يتجه إليه بالعبادة ..وهو عهد استخلاف في الأرض .الذي أخذه على آدم ،وفي عهود كثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده ...) ( 66 ) .
{ويقطعون ما أمر الله به يوصل}: لقد أمر الله بصلة الرحم والقربى ،وأمر بصلة العقيدة والأخوة الإنسانية والإيمان بجميع الرسل والكتب ،قال النسفي: هو قطعهم للأرحام وموالاة المؤمنين أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض ( 67 ) .
{ويفسدون في الأرض}: بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق والعمل على تهييج الحرب بين المؤمنين وغيرهم .
{أولئك هم الخاسرون}: لقد خسروا في الدنيا بافتضاحهم وتخبطهم وفسادهم ،وخسروا في الآخرة بغضب الله وحرمانهم من رحمته ،واستحقاقهم العذاب الأليم ،قال تعالى: أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار . ( الرعد 25 ) .