ولقد بين الله تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة ، فقال:{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض} .
ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية ، ويكون بها التدابر ، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش ، وأقسى من كل ما في الوجود:
الصفة الأولى _ نقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه ، والنقض فك ما أبرمه الشخص ووثقه وأكده من بناء أو وثيقة أو عهد ، وإن الميثاق الذي يعقد بين الناس يوثقه بيمين الله تعالى ؛ ولذلك يسمى اليمين ، ويقول تعالى:{ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها . . . ( 91 )} [ النحل] ويسمى عهد الله تعالى ؛ لأنه إذا أكده بيمين فكأنه عاهد تعالى على الوفاء بها ، وعدم النكث فيها فكأنه عاهد الله تعالى .
و{ ميثاقه} معناه كما أشرنا العهد الموثق باليمين . وما المراد بالميثاق الذي نقضوه ؟ قال بعض العلماء ونحن ، نوافقهم ، أنه ميثاق الفطرة الإنسانية ، فقد خلق الله الناس ، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين ، كما قال تعالى:{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( 172 ) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( 173 )} [ الأعراف] .
وإن أولئك الفاسقين الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بني آدم على أساسه ؛ ولذلك يقول ابن حزم ، ومعه بعض العلماء ، إن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة . وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة ، وإيقاظها ، إذا غفلت ، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه ؛ ولذلك قال تعالى:{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 24 )} [ فاطر] ، وقال تعالى:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( 15 )} [ الإسراء] .
هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم ، ولكن مع ذلك قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات ؛ لأن ذلك من سمات الكفر ، وخصوصا الذي يصحبه نفاق ، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية ، فقال تعالى:{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ( 10 )} [ التوبة] وقال تعالى في المنافقين:{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ( 75 ) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ( 76 ) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( 77 )} [ التوبة] .
إن الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى ، ويحس برقابة الله تعالى ، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين ، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى:{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 )} [ الإسراء] وإن الكافر لا يحس بمسؤولية أمام الله تعالى ؛ لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
وإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ميثاقا لليهود فنقضوه ، وعقد صلح الحديبية ، فنقضوه ، ونصروا بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم .
الصفة الثانية – أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، القطع فصل المتصل ، وجعله أجزاء متفرقة ، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله ما هو ؟ ، قيل:قطع الأرحام ، فلا يصل ذا رحمه ، ولا يعمل بالمودة بين ذوي قرباه ، ولكن الإنسانية كلها رحم واحدة ، كما قال تعالى:{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 )} [ النساء] .
فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس ، وقطعها يكون بأساليب شتى ، وسبل مختلفة وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . . ( 153 )} [ الأنعام] ومن قطعها أن يتحكم القوي في الضعيف ، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غني ومنهم فقير ، وأن يكون لكل قانون ونظام ، وأن تختلف المعاملة ، وأن تتنافر الشعوب ، ولا تتضافر ولا تتعارف كما قال تعالى:{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . ( 13 )} [ الحجرات] وأن ينقطع التعامل بين الناس فلا يكون التعاون على البر والتقوى ويحل محله التعاون على الإثم والعدوان ، وفي كل ما يكون فيه قطع للعلاقات الإنسانية يكون قطعا لما أمر الله تعالى به أن يوصل . ووصل ما أمر الله به أن يوصل هو إتباع أوامره تعالى واجتناب نواهيه ، فهي كلها لربط الناس بعضهم ببعض بالمودة والعمل الصالح ، وبسيادة الفضيلة والبعد عن الرذيلة ، وإن كانت ثمة حروب فلدفع أذى المفسدين ، وتقويم الظالمين{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( 251 )} [ البقرة] .
وفي الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله به أن يوصل وقطع للأرحام ؛ لأن الناس جميعا رحم واحدة ، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام .
وقوله تعالى:{ ما أمر الله به أن يوصل} و{ ما}:هي مفعول{ يقطعون} ، أي يقطعون الذي أمر الله تعالى به - أي بشأنه – أن يوصل . "أن"وما بعدها مصدر ، أي أمر الله تعالى وصله ، وعدم قطعه .
الوصف الثالث – من أوصاف الفاسقين ، بينه سبحانه وتعالى بقوله:{ ويفسدون في الأرض} والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس ، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده ، ولا يعبدوه وحده ، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام ، وأي فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله ، وإدراكه فيسجد لصنم لا يضر ولا ينفع ، وقد رآه يصنع بين يديه ، إنه ضلال العقل ، وضلال النفس ، وسيطرة الوهم . ويشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا ، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية القبلية ، أو العصبية الوطنية ، أو بالرغبة في أن تربو أمة عن أمة ، أو التنافس الاقتصادي ، حتى ينظر الإنسان للإنسان نظرة من يتربص به الدوائر .
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضي الحكومة هو الحق ، وأن يكون الحكم للغلب ، وأن يسود قانون الغابة لا قانون الفضيلة بين الناس ، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية ، القوي يأكل الضعيف ، والغني يحقر الفقير ، والعالم لا يعلم الجاهل ، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته .
ويشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض بل يستبد بها القادر عليه ، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها ، بل يلقيه بعضهم في البحار ، ولو جاع الباقون ، ضنا به على في أخيه الإنسان .
ولقد حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته:{ أولئك هم الخاسرون} .
اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات ، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم . فنقض العهود والمواثيق ، وقطع الصلات الإنسانية ، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون .
والخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها ، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات ، فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده ، ولكنه خسر ؛ لأن الناس لا يثقون بعهده من بعد ، والذي يقطع الأرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد ، ولكنه خسر المعاونة والمودة ، والأخوة الإنسانية والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل ، وقد خسر الناس جميعا ، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله ، وهكذا كل الفساق الآثرون الذين يحسبون بأثرتهم أنهم الكاسبون ، وهم الخاسرون . فمن كسب بغدر وخيانة وقطع الأرحام ، ومن أفسد في الأرض بالحروب الظالمة ، والغدر في العهود ، فهو خسران دائما فإن انتصر في حرب ونال ثمرة انتصاره ظلما ، وإزهاقا وإفسادا ، فإن المهزومين يتأهبون ، وهو يترقب متوجسا خائفا حذرا ، وسيكون منهم الانتقام ، ويكون الشر المستطير ، بين الغالب والمغلوب ، ولا سلام ، بل خسران .
وأكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى:{ أولئك هم الخاسرون} . . بمؤكدات ثلاثة أولها:التعبير بالجملة الاسمية ، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار . وثانيها:التأكيد بكلمة "هم"، وهي تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين ، فهم الرابحون دائما ، وثالثها:تعريف المسند والمسند إليه{[70]} الدال على القصر ؛ أي أنهم مقصورون على الخسارة ، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات ، والربح للإيمان وأهله .