الكفر بالخالق المنشئ المسخر الوجود للإنسان
إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال ، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن ، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون ، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى:{ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} .
{ كيف} يستفهم بها للحال ، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشأكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة ؟ ! إنكم ترون أن الطفل يولد ، ويجيء من غيب الله تعالى ، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك ، ترون الأمور الثلاثة ؛ الأولى موت ، ثم حياة ، ثم موت ، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى ؟ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى ، أفلا يقدر على الأخيرة ؟{. . . كما بدأكم تعودون ( 29 )} [ الأعراف] .
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لا لإنكار الوقوع ، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي ، وهو لا يصلح هنا ، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع ، فقد وقع ذلك الأمر الغريب ، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده ، وهو الذي خلقهم ، فأحياهم ، وقد كانوا أمواتا ، وذلك محسوس مرئي ، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل .
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى:{ وكنتم أمواتا} هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة ، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين ، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلقة وغير مخلقة ، فجعلكم أحياء .
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت ، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة ، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت ، والجماد لم تسبقه حياة ، حتى يكون من بعدها موت ؟ .
ونقول في الجواب عن ذلك:إن الموت لا يقتضي وجود حياة سابقة ، بل يطلق على الجماد ذاته ، فيقال:أرض موات ، وأرض ميتة ، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى:{ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ( 33 )} [ يس] ، وقال تعالى:{ رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ( 11 )} [ ق] .
فقوله تعالى:{ كنتم أمواتا} ، أي كنتم لا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه ، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة ، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى:{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( 1 )} [ الإنسان] وقوله تعالى:{ وكنتم أمواتا فأحياكم} خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب ، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس ، لا بمجرد التصور والتفكر ،{ ثم يميتكم} و{ ثم} هنا للتراخي ؛ لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا ، ثم يموت ، و{ لكل أجل كتاب ( 38 )} [ الرعد] ،{ ثم يحييكم} بالبعث والنشور ، ثم تكون القيامة ، ثم إليه سبحانه ترجعون ، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى:{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا . . . ( 11 )} [ غافر] ، وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه ، دليلا على وقوع ما ينتظرهم ، وينتظرونه ، وهو البعث ، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها ، فإنه قادر على إعادتها ، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده ، ولا يؤمنون بالغيب الذي لا يحسون .
قوله تعالى:{ ثم إليه ترجعون} وثم هنا للتراخي ؛ أي بعد أن يقضوا حياتهم ، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل ، فإن خيرا فخير ، وإن شرا فالعذاب .
وتقديم{ إليه} على{ ترجعون} للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون ، لا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة ، ولا قدرة ، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى .