إن الله تعالى خلق الخلق ، وأحياهم بعد العدم ، ولم يتركهم ، بل أنعم عليهم بالأرض وخيراتها ، وكل ثمراتها ، وسخر لهم ما في السموات والأرض ، ومع ذلك كفروا بربهم الذي أولاهم الحياة ، وأولاهم نعم الوجود ؛ ولذلك قال تعالى:{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} .
أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض وما فيها جميعا ، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى ، وما يستنبطون من فلزات ، ومعادن سائلة وجامدة ، خلق لكم جميعا ، كل ما في الأرض مما حوت بطونها ، وجرت به أنهارها ، ونزل من السماء ماءها .
ومعنى{ لكم} اللام فيه للاختصاص أو التمليك ، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم ، وهذا من آلائه ونعمه عليكم ، أو نقول خلق وقدر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه ، لأجل أن تنتفعوا به ؛ تستطيبون طيباته ، وتتركون خبائثه ، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا ، وتبين الخبائث لتجتنبوها ، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض ، جعلها فراشا ، وملأها بالنعم على ظاهرها ، وفيما اكتنزته بطونها ، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث .
وهنا كلمتان لا بد من ذكرهما:
أولاهما – ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت بالدليل منعه ، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها ، واستثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة ، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح ، وإن ذلك لا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها ، فالتنظيم بالزواج لا يمنع الإباحة .
وإن الأمر فيما ، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه ، وهذا مبني على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح ، وهذا لا يستلزم أن يكون التكليف قائما على الاستحسان أو الاستهجان ، إنما التكليف من أمر الله ونهيه .
الكلمة الثانية – أن قوله تعالى:{ جميعا} متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس ، فليس لكم بعضه دون بعضه ، بل هو لكم كله ، لأجلكم ، تنعمون به ، وتعبدون الله تعالى على آلائه ، فهو يؤدي إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها ، ولتعبدوه بهذا الشكر ، كقوله:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 )} [ الذاريات] .
ولا يتبادر إلى الذهن أنها تأكيد لقوله تعالى:{ لكم} . أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا ، فلا ينفرد قبيل دون قبيل ، ولا جماعة دون جماعة ، ولا قوم دون قوم ، ولا غني دون فقير .
وإننا لا نرى ذلك – أولا:لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب ، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس ، يتخيرون منه ، ولا يطلبون خبيثه ، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول ، فلا يفصل بين المؤكد والمؤكد ، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى:{ لكم} أن الخلق لكم كلكم ، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب ، لا بلفظ{ جميعا} .
وليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم ، أن يتقاسموه ، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما ، من غير تمييز بين عامل وخامل ، ولا بين موفق وغير موفق ، إنما لكل امرئ عمله ، ولكل امرئ ما كسب .
ولا تقتضي الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم ، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب ، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض ، وكل وما يكسبه ، والله هو الغني الحميد .
وإنه كما ملك الله تعالى عبيده كل ما في الأرض لكلهم عاملين فيه جادين ، سخر لهم ما في السموات والأرض ؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر نعمة الأرض عليهم بما فيها ، قال تعالى:{ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} .
استوى معناها قصد مرتفعا ، أو ارتفع للسماء ، وهي في هذه الآية ما علا ، وكان كالسقف المحفوظ ، فسوى السماوات سبعا أي جعلها سبعا ؛ ولأن السماء ، وهي الجهة العالية ، كما أشرنا واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها ؛ ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين .
والمراد من السماوات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن ، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية ، فمعنى سواهن:قسمهن بالتسوية سبعا ، وهي مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة ، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا .
وكان الشائع بين علماء الفلك خمسا ، لا سبعا ، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع ، وهي:عطارد ، والزهرة ، والمريخ ، والمشتري ، وزحل ، وكشف أورانوس ثم نبتون ، وكل كوكب في طبقة من السماء ، والشمس والقمر ليسا من السبع ، وهذا قوله تعالى:{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ( 15 ) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ( 16 )} [ نوح] فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السماوات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم ، وإن كانتا في السماء ، وتسمى السبع المجموعة الشمسية ، والشمس في طبقة أعلى منهن .
وإن قوله تعالى:{ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع} ، يدل بظاهره في العطف بثم على أن السماوات سويت سبعا بعد خلق الأرض ، ولكن لا يدل على ذلك دلالة قاطعة ، فإن التعبير بثم يدل على الترتيب البياني في الذكر ولا يدل على الترتيب الواقعي ، فإن الآيات قد تدل على غيره ، وإنا نقرر أن الزمن لا يحكم أفعال الله تعالى ؛ فكما أنه تعالى لا يكون في مكان ، فأفعاله تعالى فوق الأزمان .
ولقد جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء ، وكانتا رتقا ، أو شيئا واحدا ، كما قال تعالى:{ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( 30 )} [ الأنبياء] .
ولقد قال تعالى في بيان خلق السماء والأرض:{ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ( 9 ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ( 10 ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( 11 ) فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ( 12 )} [ فصلت] .
وقد يقال:إنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى ، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين ، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام ، وأنه قضى السماوات في يومين ، فكيف تنفي الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار ؟ ونقول في جواب ذلك:إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس ، وتنتهي بغروبها أو العكس ، فإن ذلك تقدير نسبي بين الأرض والشمس ، وما كانتا قد خلقتا ، كما يدل صريح القرآن ، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني ، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني ، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله:{ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما . . . ( 30 )} [ الأنبياء] فهذا يوم ، أي دور تكويني ، هو دور انفصال الأرض عن الكتلة الشمسية .
وعند هذا الانفصال تكونت بإرادة الله تعالى وقدرته القاهرة ، وإرادته المسيطرة القشرة الأرضية ، وهذا هو اليوم الثاني ، أو الدور الثاني ، وقد بين سبحانه وتعالى ، الأدوار الأربعة بعد ذلك .
هذا وقبل أن ننتهي من القول تحت إشراق القرآن في بيان الخلق والتكوين ، نقول إن بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سموات ، لا يراد بها العدد المحدود المذكور ، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد ، كما في قوله تعالى:{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( 27 )} [ لقمان] ، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر ، إنما المراد عدد من الأبحر كثير .
ومثله قوله تعالى:{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم . . . ( 80 )} [ التوبة] فالسبع ، والسبعون يراد بها الكثرة ، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين .
وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق ، فإن السماء ذات أبراج ، وإن الشمس في أعلى طبقاتها ، وفوقها شموس ، وفي السديم{[71]} علو لا يعلمه إلا الله تعالى .
ولقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكونية بقوله تعالى:{ وهو بكل شيء عليم} أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وعلم من أنشأ وكون وقدر ودبر ، وقد ابتدأ العبارة السامية ، بلفظ الجلالة لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب ، وأكد علمه السرمدي ، بثلاثة مؤكدات:بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته ؛ لأنه علم أزلي دائم لا يجري عليه ما يجري على الناس ، وأكده سبحانه وتعالى بذكر الإحاطة التامة بكل شيء ، وأكده سبحانه بذكر صفة من صفته فقال:{ عليم} ، سبحان من أحاط بكل شيء علما ، وسبحان من عنت له الوجوه .