خلق الإنسان
ذكر سبحانه وتعالى خلق الأرض وتمليكه الإنسان حق الانتفاع بها ، وأشار إلى خلق السماوات فكان من بعد ذلك أن تكلم على خلق الإنسان الذي سخر له هذا الوجود الكوني ، من أرض وسماء ، فقال تعالت كلماته:
{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ( 30 )} .
وقبل أن نتعرف القصة الحقيقية التي صورها القرآن لخلق الإنسان نذكر عوالم ثلاثة للعقلاء جاء ذكر بعضها في بيان علاقة الإنسان في خلقه وتكوينه بها .
وهذه العوالم الثلاثة هي:عالم الملائكة وهم خلق الله تعالى ، قيل إنه سبحانه خلقهم من نور ، وهم أرواح طاهرة مطهرة لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . لا يتصور منهم معصية ولا يكون منهم إلا الطاعة ، ركب الله تعالى كونهم على أنه لا تتصور منهم معصية ، فليست شهوات ولا أهواء ، وهي بواعث العصيان .
والثاني من هذه العوالم:هو عالم الجن ، وعبارات القرآن تدل على أنهم خلقوا من نار ، وقد ذكر ذلك إبليس الذي هو من الجن ، فقال في غروره مفضلا نفسه على آدم:{ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( 76 )} [ ص] ، وإبليس كان من الجن ، ولكنه من جن فاسق ، فقد ذكر عنه ربه أنه{ كان من الجن ففسق عن أمر ربه . . . ( 50 )} [ الكهف] .
والجن يظهر أن فيهم أهواء وشهوات ؛ ولذلك كان منهم العاصون ، ومنهم العادلون المقسطون ، وأنهم مكلفون ، وأنهم سمعوا القرآن ، وسمعوا من قبل توراة موسى ، وقد قال تعالى فيهم:
{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ( 1 ) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( 2 ) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ( 3 ) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ( 4 ) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ( 5 ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ( 6 ) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ( 7 ) [ الجن] إلى أن يقول تعالت كلماته:{ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ( 11 ) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ( 12 ) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ( 13 ) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ( 14 ) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ( 15 ) وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ( 16 ) لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ( 17 )} [ الجن] .
والجن كما ذكر القرآن عالم غير عالم الملائكة ، وغير عالم الإنسان ، وتأويل القول فيهم أنهم من عالم الإنسان ، وأنهم قبيلة منهم – تأويل بغير دليل ، يخالف ظاهر القرآن ، وليس لقائله من سند إلا أن يكون تحريفا للقول عن مواضعه .
والعالم الثالث هو:عالم الإنسان ، وقد خلق من سلالة من طين ، والعالمان الخفيان ، وهما عالم الملائكة وعالم الجن ، تدل الآيات الكريمات على أنهما خلقا قبل العالم الثالث ، وهو الإنسان ، بدليل أن الملائكة ذكر الله تعالى لهم أنه جاعل الإنسان خليفة ، وأنهم عجبوا أن يكون خليفة في الأرض من يفسد فيها ويهلك الحرث ، وبدليل أن إبليس الذي كان من الجن عصى ربه ، فلم يسجد ، وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
والإنسان خلق فيه العقل المدرك الذي يرفعه إلى درجة الملائكة ، وخلق فيه الشهوة والهوى اللذان يجعلانه مفسدا فيها ويهلك الحرث والنسل ، وذلك وجه استغرابهم .
ولنذكر القصة الكاملة الحقيقية التي يصور الله تعالى فيها خلق هذا العالم الثالث ، وهو الإنسان .
أعلم الله تعالى الملائكة - وهم جمع ملك – بأنه سيجعل في الأرض من يسكن ظاهرها ، ويحكم فيها ، وينسل فقال:{ إني جاعل في الأرض خليفة} ، أي يكون ساكنا فيها بالخلافة عمن كانوا فيها ، ولم يذكر سبحانه وتعالى من كانوا فيها أهم كانوا من الملائكة أم كانوا من الجن ، أم كانوا خلقا آخر ، ولقد ترك الله سبحانه وتعالى ذكر من خلفهم ، فلنسكت عما ترك ، ولا نرجم بالغيب ، حتى لا نطلب ما ليس لنا به علم .
وقد يقال إن{ خليفة} معناها الخلافة عن الله تعالى في الأرض ، بمعنى أن الله تعالى بما أعطاه من قوة العقل والتفكير والتدبير ، والسيطرة على نفسه ، وعلى ما في الوجود ، في الأرض ، التي خلفه الله تعالى عليها ليكون خليفة خلافة نسبية عن الله تعالى ، والله تعالى غالب على كل أمره ، وأموره .
قد يكون هذا هو الظاهر ، أو أن{ خليفة} معناه أنه وجنسه خلائف يخلف بعضهم بعضا ، كما قال الله تعالى:{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب . . . ( 165 )} [ الأنعام] .
وعندي أن ما أشرنا مرجحين له:وهو أنه خليفة عن الله تعالى وهي خلافة نسبية ، ترك الله تعالى له الخلافة ، ليبلوه فيما ملكه من منافع الأرض التي خلقها جميعا له .
ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة في هذه الأرض ، ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث في هذا الوجود من أنه أوتي عقلا مدركا ، وشهوة قد تكون طاغية ، وأنها إن طغت أفسدت ، وأهلكت .
ولذلك قالوا لربهم مستغربين:أتجعل فيها من يفسد فيها ، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت ؛ وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الأثرة ، وكان التنازع ، ومع التنازع سفك الدماء ، ولذا قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ ! وقد كانوا مع اعتقادهم في الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة بالأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى في حكمه ، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء ، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له ، فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان ،{ ونحن نسبح بحمدك} أي نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت ، لأن ذاته العلية تستحق الحمد في ذاته ،{ ونقدس لك} أي نعظمك وننزهك لك أنت . أي:لأجل ذاتك العلية .
يبين الله تعالى لهم ، أن الله يعلم ذلك ، فيعلم أحوالهم وأنهم في تسبيح دائم ، وتقديس ملازم ، ولكن في الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها ، فهو يعلمه ويعلمهم ، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله في الأرض ؛ ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله:{ إني أعلم ما لا تعلمون} أعلم الجدير بما أعطي وغير الجدير .