)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة:30 )
التفسير:
قوله تعالى:{وإذ قال ربك}: قال المعربون:{إذ} مفعول لفعل محذوف ؛والتقدير: اذكر إذ قال ؛والخطاب في قوله تعالى:{ربك} للنبيصلى الله عليه وسلم ؛ولما كان الخطاب له صارت الربوبية هنا من أقسام الربوبية الخاصة ..
قوله تعالى:{للملائكة}: اللام للتعدية .أي تعدية القول للمقول له ؛و"الملائكة "جمع"مَلْئَك "،وأصله"مألك "؛لأنه مشتق من الأَلُوكة .وهي الرسالة ؛لكن صار فيها إعلال بالنقل .أي نقل حرف مكان حرف آخر ؛مثل أشياء أصلها:"شيئاء "؛و"الملائكة "عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور ،وجعل لهم وظائف ،وأعمالاً مختلفة ؛فمنهم الموكل بالوحي كجبريل ؛وبالقطر ،والنبات كميكائيل ؛وبالنفخ في الصور كإسرافيل ؛وبأرواح بني أدم كملَك الموت ...إلى غير ذلك من الوظائف ،والأعمال ..
قوله تعالى:{إني جاعل في الأرض خليفة}؛خليفة يخلف الله ؛أو يخلف من سبقه ؛أو يخلف بعضهم بعضاً يتناسلون .على أقوال: .
أما الأول: فيحتمل أن الله أراد من هذه الخليقة .آدم ،وبنيه .أن يجعل منهم الخلفاء يخلفون الله تعالى في عباده بإبلاغ شريعته ،والدعوة إليها ،والحكم بين عباده ؛لا عن جهل بالله سبحانه وتعالى .وحاشاه من ذلك ،ولا عن عجز ؛ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده ،كما قال تعالى:{يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس} [ ص: 26]: هو خليفة يخلف الله عزّ وجلّ في الحكم بين عباده ..
والثاني: أنهم يخلفون من سبقهم ؛لأن الأرض كانت معمورة قبل آدم ؛وعلى هذا الاحتمال تكون{خليفة} هنا بمعنى الفاعل ؛وعلى الأول بمعنى المفعول ..
والثالث: أنه يخلف بعضهم بعضاً ؛بمعنى: أنهم يتناسلون: هذا يموت ،وهذا يحيى ؛وعلى هذا التفسير تكون{خليفة} صالحة لاسم الفاعل ،واسم المفعول ..
كل هذا محتمل ؛وكل هذا واقع ؛لكن قول الملائكة:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم ،وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء ،وتفسد فيها ،فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} كما فعل من قبلهم .واستفهام الملائكة للاستطلاع ،والاستعلام ،وليس للاعتراض ؛قال تعالى:{إني أعلم ما لا تعلمون} يعني: وستتغير الحال ؛ولا تكون كالتي سبقت ..
قوله تعالى:{ونحن نسبح} أي نُنَزِّه ؛والذي يُنَزَّه الله عنه شيئان ؛أولاً: النقص ؛والثاني: النقص في كماله ؛وزد ثالثاً إن شئت: مماثلة المخلوقين ؛كل هذا يُنَزَّه الله عنه ؛النقص: مطلقاً ؛يعني أن كل صفة نقص لا يمكن أن يوصف الله بها أبداً .لا وصفاً دائماً ،ولا خبراً ؛والنقص في كماله: فلا يمكن أن يكون في كماله نقص ؛قدرته: لا يمكن أن يعتريها عجز ؛قوته: لا يمكن أن يعتريها ضعف ؛علمه: لا يمكن أن يعتريه نسيان ...وهلم جراً ؛ولهذا قال عزّ وجلّ:{ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ ق: 38] أي تعب ،وإعياء ؛فهو عزّ وجلّ كامل الصفات لا يمكن أن يعتري كماله نقص ؛ومماثلة المخلوقين: هذه إن شئنا أفردناها بالذكر ؛لأن الله تعالى أفردها بالذكر ،فقال:{ليس كمثله شيء} [ الشورى: 11] .وقال تعالى:{وله المثل الأعلى} ،وقال تعالى:{فلا تضربوا لله الأمثال} [ النحل: 74]؛وإن شئنا جعلناها داخلة في القسم الأول .النقص .لأن تمثيل الخالق بالمخلوق يعني النقص ؛بل المفاضلة بين الكامل والناقص تجعل الكامل ناقصاً ،كما قال القائل: .
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا لو قلت: فلان عنده سيف أمضى من العصا تبين أن السيف هذا رديء ،وليس بشيء ؛فربما نفرد هذا القسم الثالث ،وربما ندخله في القسم الأول ؛على كل حال التسبيح ينبغي لنا .عندما نقول:"سبحان الله "،أو:"أسبح الله "،أو ما أشبه ذلك .أن نستحضر هذه المعاني ..
قوله تعالى: و{بحمدك}: قال العلماء: الباء هنا للمصاحبة .أي تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به ؛فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص ،وإثبات الكمال لله بالحمد ؛لأن الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة ،وتعظيماً ؛فإن وصفتَ مرة أخرى بكمال فسَمِّه ثناءً ؛والدليل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال:"قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ؛فإذ قال:{الحمد لله رب العالمين} قال تعالى: حمدني عبدي ؛وإذا قال:{الرحمن الرحيم} قال تعالى: أثنى عليّ عبدي "؛لأن نفي النقص يكون قبل إثبات الكمال من أجل أن يَرِد الكمال على محل خالٍ من النقص ..
قوله تعالى:{ونقدس}:"التقديس "معناه التطهير ؛وهو أمر زائد على"التنْزيه "؛لأن"التنزيه "تبرئة ،وتخلية ؛و "التطهير "أمر زائد ؛ولهذا نقول في دعاء الاستفتاح:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ؛اللهم نقني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس ؛اللهم اغسلني من خطاياي بالماء ،والثلج ،والبَرد ": فالأول: طلبُ المباعدة ؛والثاني: طلب التنقية .يعني: التخلية بعد المباعدة ؛والثالث: طلب الغسل بعد التنقية حتى يزول الأثر بالكلية ؛فيجمع الإنسان بين تنْزيه الله عزّ وجلّ عن كل عيب ونقص ،وتطهيره .أنه لا أثر إطلاقاً لما يمكن أن يعلق بالذهن من نقص ..
قوله تعالى:{لك} اللام هنا للاختصاص ؛فتفيد الإخلاص ؛وهي أيضاً للاستحقاق ؛لأن الله .جلّ وعلا .أهل لأن يقدس ..
أجابهم الله تعالى:{قال إني أعلم ما لا تعلمون} أي من أمر هذه الخليفة التي سيكون منها النبيون ،والصدِّيقون ،والشهداء ،والصالحون ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ ،وأنه بحرف ،وصوت ؛وهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة ،والتابعين ،وأئمة الهدى من بعدهم ؛يؤخذ كونه بحرف من قوله تعالى:{إني جاعل في الأرض خليفة}؛لأن هذه حروف ؛ويؤخذ كونه بصوت من أنه خاطب الملائكة بما يسمعونه ؛وإثبات القول لله على هذا الوجه من كماله سبحانه وتعالى ؛بل هو من أعظم صفات الكمال: أن يكون عزّ وجلّ متكلماً بما شاء كوناً ،وشرعاً ؛متى شاء ؛وكيف شاء ؛فكل ما يحدث في الكون فهو كائن بكلمة{كن}؛لقوله تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [ يس: 82]؛وكل الكون مراد له قدراً ؛وأما قوله الشرعي: فهو وحيه الذي أوحاه إلى رسله ،وأنبيائه ..
. 2ومن فوائد الآية: أن الملائكة ذوو عقول ؛وجهه أن الله تعالى وجه إليهم الخطاب ،وأجابوا ؛ولا يمكن أن يوجه الخطاب إلا إلى من يعقله ؛ولا يمكن أن يجيبه إلا من يعقل الكلامَ ،والجوابَ عليه ؛وإنما نبَّهْنا على ذلك ؛لأن بعض أهل الزيغ قالوا: إن الملائكة ليسوا عقلاء ..
. 3ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ أي أنه تعالى يفعل ما شاء متى شاء كيف شاء ؛ومن أهل البدع من ينكر ذلك زعماً منه أن الأفعال حوادث ؛والحوادث لا تقوم إلا بحادث فلا يجيء ،ولا يستوي على العرش ،ولا ينْزل ،ولا يتكلم ،ولا يضحك ،ولا يفرح ،ولا يعجب ؛وهذه دعوى فاسدة من وجوه: .
الأول: أنها في مقابلة نص ؛وما كان في مقابلة نص فهو مردود على صاحبه ..
الثاني: أنها دعوى غير مسلَّمة ؛فإن الحوادث قد تقوم بالأول الذي ليس قبله شيء ..
الثالث: أن كونه تعالى فعالاً لما يريد من كماله ،وتمام صفاته ؛لأن من لا يفعل إما أن يكون غير عالم ،ولا مريد ؛وإما أن يكون عاجزاً ؛وكلاهما وصفان ممتنعان عن الله سبحانه وتعالى ..
فتَعَجَّبْ كيف أُتي هؤلاء من حيث ظنوا أنه تنزيه لله عن النقص ؛وهو في الحقيقة غاية النقص !!!فاحمد ربك على العافية ،واسأله أن يعافي هؤلاء مما ابتلاهم به من سفه في العقول ،وتحريف للمنقول ..
. 4ومن فوائد الآية: أن بني آدم يخلف بعضهم بعضاً .على أحد الأقوال في معنى{خليفة}؛وهذا هو الواقع ؛فتجد من له مائة مع من له سنة واحدة ،وما بينهما ؛وهذا من حكمة الله عزّ وجلّ ؛لأن الناس لو من وُلِد بقي لضاقت الأرض بما رحبت ،ولما استقامت الأحوال ،ولا حصلت الرحمة للصغار ،ولا الولاية عليهم إلى غير ذلك من المصالح العظيمة ..
. 5 ومنها: قيام الملائكة بعبادة الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )
. 6 ومنها: كراهة الملائكة للإفساد في الأرض ؛لقولهم: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )
. 7ومنها: أن وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخير لا بأس به إذا كان المقصود مجرد الخبر دون الفخر ؛لقولهم:{ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}؛ويؤيد ذلك قول النبيصلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر "{[72]}؛وأما إذا كان المقصود الفخر ،وتزكية النفس بهذا فلا يجوز ؛لقوله تعالى:{فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [ النجم: 32] ..
. 8ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ ،حيث قالوا: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )