خليفة الله في الأرًض
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لاتعلمون( 30 )} .
تمهيد:
خلق الله الإنسان ونفخ فيه من روحه ،وأسجد له الملائكة ومنحه الإرادة والاختيار وكرمه بالعقل ،وسخر له الكون كله ،وأخضع له الحيوانات وأسرار الوجود وأمده بالذكاء والمعرفة والقدرة على النظر والملاحظة والتجربة ،والترقي والاستزادة من المعارف ؛وبهذا كان صالحا للخلافة في الأرض والتصرف فيها خليفة عن الله محققا هدف الخالق من عمارة الأرض وإثارة التنافس والتسابق بين أفرادها وتزويدهم بالقدرة على اختيار طريق الهدى أو الضلال ،لتظهر حكمته من الخلق وليتبين المطيع من العاصي ( 71 ) .
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...}
المفردات:
الملائكة: جمع ملك وهم ذوات نورانية خلقوا لطاعة الله فيما أمرهم به ،ولهم القدرة على التشكل بالأشكال الحسنة المختلفة ،ولهذا كان الرسل يرونهم .
خليفة: أي خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه ،وكذلك كل نبي ،قال تعالى:{يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} ( ص26 ) .
التفسير:
لقد أراد الله أن يسلم هذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض ،وأن يطلق يده فيها ( وأن يكل إليه إبراز مشيئة الخلق في الإبداع والتكوين والتحليل والتركيب والتحوير والتبديل وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز و خامات ،وتسخير هذا كله بإذن الله في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه ،( وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من قوى وطاقات وكنوز وخامات ،ووهب من القوى الخفية المشيئة الإلهية ) ( 72 )
أو تعظيما لشأن آدم وتنويها بفضله بأن بشر بذكره في الملء الأعلى قبل إيجاده ولقبه بالخليفة ( 73 ) .
الحكمة من إخبار الملائكة:
والغرض من إخبار الملائكة بخلافة آدم في الأرض ،هو أن يسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به حتى يعرفوا حكمته ،صيانة لهم من اعتراض الشبهة ،أو الحكمة على تعليم العباد المشاورة في أمورهم ،قبل أن يقدموا عليها ،وعرضها على ثقاتهمونصائحهموإن كان المستشير بعمله وحكمته غنيا عن المشاورة ) ( 74 ) .
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون .
لقد تشوقت الملائكة لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي سيمنح الإرادة والاختيار والقدرة على القتل وسفك الدماء ،مع أنهم أولى منه بالخلافة في الأرض ،حيث إنهم يسبحون بحمد الله وينصرفون لعبادته وتقديس أسمائه وتحقيق القصد من خلقهم بعبادته فهم أولى بالخلافة في الأرض لأنهم معصومون من الخطأ .
وما علموا أن الأرض لو ملئت بالملائكة لانصرفوا للعبادة وبقيت الأرض خرابا بيانا ،لعدم حاجة الملائكة إلى زراعتها وعمارتها ،( ويوحي قول الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها بأنه كان لديهم من شواهد الحال ،أو من تجارب سابقة في الأرض ،أو إلهام البصيرة مايكشف لهم عن فطرة هذا المخلوق ،أو من مقتضيات حياته على الأرض ،ما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض وأنه سيسفك الدماء ،ثم هم بفطرة الملائكة البريئة ،التي لا تتصور إلا أن الخير المطلق هو وحده الغاية المطلقة للوجود ،وهو وحده العلة الأولى للخلق وهو متحقق بوجودهم هم ،يسبحون بحمد الله ويقدسونه ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته ...) .
( لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا ،في بناء هذه الأرض وعمارتها ،وفي تنمية الحياة وتنويعها ،وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها على يد خليفة الله في أرضه ،هذا الذي قد يفسد أحيانا وقد يسفك الدماء أحيانا ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر ،خير أكبر وأشمل ،خير النمو والرقي الدائم ،خير الحركة الهادمة البانية ،خير المحاولة التي لا تكف ،والتطلع الذي لا يقف والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير ) ( 75 ) .
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء والخبير بمصائر الأمور:{قال إني أعلم ما لا تعلمون} ،إني أعلم أن الأرض لا يعمرها إلا إنسان يملك الإرادة والاختيار والطاعة والمعصية ،ويكون جزاءه التواب ،والعقاب على المعصية .{ونبلوكم بالشر وخير الفتنة} .( الأنبياء 35 ) .