إن أمر الخليقة وكيفية تكوين هذا الكون على هذه الصورة ،وخلق الحياة فيه ،لهي من الشئون الإلَهية التي حيّرت العقول .والتي يعزّ الوقوف عليها كما هي .وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية بطريقة لطيفة ،ومثّل لنا المعاني في صور محسوسة ،وأبرز لنا الحِكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار .
ويعتبر بعض العلماء هذا النوع من القصص في القرآن من المتشابه الذي لا يمكن حمله على ظاهره ،ذلك أن هذه الآيات بحسب قانون التخاطب ،إما أن تكون استشارة ،وذلك محال على الله تعالى ،وإما أن تكون إخباراً منه سبحانه وتعالى للملائكة واعتراضاً منهم ومحاجّة وجدالا ،وذلك لا يليق بجلال الله ولا بملائكته الذين{لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ التحريم: 6] .
وللعلماء في هذا النوع من المتشابه طريقتان:
الأولى: طريقة السلَف ،وهي: التنزيه كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [ الشورى: 11] وقوله تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [ الصافات: 180] ،وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك ،مع العلم بأن الله يعلّمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به من أعمالنا وأحوالنا ،ويأتينا في ذلك بما يقرّب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيّلاتنا .
والثانية: طريقة الخلَف ،وهي: التأويل ،يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وُضعت على أساس العقل .فمن ثمَ لا يخرج شيء منها عن المعقول ،فإذا ورد في القرآن أو الحديث شيء يخالف العقل حسُن تأويله ،حتى يقرب إلى الأذهان .
وعلى هذا قالوا: إن قصة الخلق إنما وردت مورد التمثيل ،لتقريبها من أذهان الناس ،ولفْهم حالة خَلق الإنسان وحال النشأة الأولى .لذا بيّن الله سبحانه أنه هو الذي أحيا الإنسان ومكّن له في الأرض ،ثم بين بعد ذلك أصل تكوين الإنسان وما أودع فيه من عِلم الأشياء وذكّره به ...فاذكر يا محمد نعمةً أخرى من ربك على الإنسان ،وهي أنه قال للملائكة: إني جاعل في الأرض من أمكّنه فيها وأجعله صاحب سلطان ،وهو آدم وذريته .وإنها لمنزلة عظيمة وتكريم كبير لهذا الإنسان !
فاستفهم الملائكة عن سر ذلك قائلين: أتجعل في الأرض من يُفسد فيها بالمعاصي وسفك الدماء بالعدوان ،لما في طبيعته من شهوات ،بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ونطهّر ذكرك ونمجّدك ؟فأجابهم الله بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون من المصلحة في ذلك ،لقد أودعتُ فيه من السر ما لم أودعه فيكم .
وفي هذا إرشاد للملائكة وللناس أن يعلموا أنّ أفعاله تعالى كلّها بالغةٌ غايةَ الحكمة والكمال ،وإن لم يفهموا ذلك من أول وهلة .
وقال فريق من المفسرين: إن قول الملائكة: «أتجعل فيها من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء » يُشعر بأنه كان في الأرض صنفٌ أو أكثر من نوع الحيوان الناطق ،وأنه كان قد انقرض يوم خلْق الإنسان ،وقدّر الملائكةُ أن الصنف المستخلَف الجديد ،أي آدم وذريته ،لن يسلك إلا مثل ما سلك سابقوه ،وقاسوا فعله اللاحق على فعل السلف السابق ،من إفساد وسفك دماء ..
من ثم استنبطوا سؤالهم وكأنه اعتراض ،مع أنه تقرير مبني على قياس .وإذا صحّ هذا ،فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض ،وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة البائدة منه في الذات والمادة ،كيما يصح القياس .
وهذه الآية تجلّي حجة الرسول ودعوته من حيث أنه: إذا كان الملائكة محتاجين إلى العلم ،ويستفيدونه بالتعلم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم ،فإن البشر أولى منهم في إنكار مال لم يعرفوه حتى يعلموا ،وأن الإفساد في الأرض وجحود الحق ومناصبة الداعي إليه العداءَ- ليس بدعاً من قريش ،وإنما هو طبيعة البشر .
والملائكة والملائك جمع: مَلك ،نؤمن بوجودهم ،ولا نعرف عنهم إلا ما ورد في الكتاب ،إنهم أرواح علوية مطهّرة ،يعبدون الله ،لا يعصون الله ما أمَرَهُم ويفعلون ما يُؤمرون .
ولفظة ملَك في اللغة مَعناها: الرسالة .ويقول الطبري: سُميت الملائكة ملائكةً بالرسالة ،لأنها رُسل الله إلى أنبيائه .
نسبّح بحمدك: نصلّي لك ،وننزهك ،ونبرّئك مما يضيفه إليك أهل الشرك .ونقدس لك: نعظّمك ونمجّدك .وكل ذلك إقرارا بالفضل وشكرانا لله على خلقهم .