قوله تعالى: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لم قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم ءادم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنت صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (إذ ظرف زمان يفيد الإخبار عن المستقبل ،وقال أكثر المغربين ،إنه مفعول به فهم يقدرون: اذكر وقت كذا .{[34]}
والملائكة مفردها ملك وهو مشتق من الألوك وقيل من المألك وهي تعني الرسالة ،وأصل ملك ملأك ثم نقلت حركة الهمزة إلى الام فسقطت ،وقيل في لفظ ملك أنه مشتق من الفعل أنك بمعنى أرسل ،وقيل غير ذلك وعلى العموم فإن الملائكة من حيث المفهوم اللغوي تعنى الرسل .{[35]}
وفي الآية إخبار من الله عن خطابه للملائكة بأنه خالق في الأرض (خليفة (جاء في معناها عدة أقوال منها أنه يخلق من كان قبله من الملائكة أو غير الملائكة .
وقيل: بل سمي خليفة لأن نسله وذريته يعقب بعضهم بعضا على هيئة أمم وأجيال ،وثمة قول ثالث جدير بالاهتمام وهو أن آدم خليفة الله في إمضاء أحكامه وتنفيذ أمره وشرعه ،فالله سبحانه هو الآمر الموجب ،وهو سبحانه شارع الدين لعباده بما في الدين من أصول وكليات وما يتفرع عن ذلك من فروع وتفصيلات ،وذلك كله بتقدير الله وأمره الذي ينبغي للناس أن يمتثلوه دون تقصير أو تخلف ،ومن بعد ذلك يأتي دور الإنسان وهو دور كبير حقا ،يتجسد في اضطلاع هذا الإنسان الخليفة بتطبيق شرع الله كاملا غير منقوص وباتخاذ كل ما يلزم من أسباب إجرائية أو وقائية أو غير ذلك من أسباب وذلك لإجراء شرع الله على العباد .
والإنسان"الخليفة "لهو كائن عظيم القدر في تصور الإسلام ،وهو كذلك بالغ الشأن وكبير الاعتبار في ميزان الله ،وهو لا يعدله في شأنه واعتباره أي كائن آخر إذا ما كان ( الإنسان ) على صراط الله ويمضي في الحياة على بصيرة من منهج الله الكبير ،أو كان من المؤمنين الأوفياء الذين صدقوا الله المقاصد والنوايا ،واستمسكوا بعقيدة الإسلام تعمر قلوبهم بالأمن والرضا ،ذلك هو الإنسان"الخليفة "الذي يمشي على الأرض ذاكرا لآلاء الله شاكرا لأنعمه ،لا يند عن صراطه وشرعه ولو احتمل معطاء وباعثا للخير له ولمن حوله من الناس حتى البهائم والأنعام ينظر إليها بعين الرعاية والحدب والرحمة .
ذلك هو الإنسان"الخليفة "الذي يحمل في الأرض أفدح أمانة قد عجزت دون حملها السماوات والأرض والجبال ،وتلك هي أمانة العقيدة التي يطويها القلب في شغافه وحناياه لينطلق في ضوئها عاملا كادحا باذلا لا يتوانى عن أداء الخير والفريضة والمعروف ،ولا يثني عن وجيبة التبليغ للناس في شجاعة وحماسة وإحساس بفريضة الجهاد يؤديها العبد المؤمن دون تهيب أو فرق ودون ضعف أو جل أو خجل .
والإنسان وهو على هذه الشاكلة من الإيمان والعمل ومن البذل والاستقامة والصبر ،لهو ذو شأن عظيم من حيث المنزلة ،وهو الكائن المكرم المفضل الذي يسمو على الكائنات جميعا والذي يرصد له الله من العناية والصيانة والتشريع ما يرقى به رقيا عظيما ،وليس لأحد بعد ذلك أن يعتدي على هذا الإنسان"الخليفة "كيفما كان الاعتداء ،فإنه لا يعتدي عليه إلا جانف هالك ،وأصدق ما يرد في هذا الصدد ،(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: ( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ){[36]}ويقول في حديث آخر يطير منه القلب هلعا رعبا: ( لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار ){[37]} وفي الحديث القدسي: ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ،وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ،وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذ بي لأعذته ) .
وقوله: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء (لا تتصور أن مثل هذا السؤال من الملائكة يرد على وجه الاعتراض أو الاستنكار وهم العباد الأبرار المقربون الذين (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (ولكنه يرد على سبيل التعرف والاستفهام ،على أن ظاهر الآية يدل على علم الملائكة بما ستؤول إليه حال البشر لدى وجودهم في هذه الدنيا ،فلسوف يكون ثمة إفساد وسفك للدماء وغير ذلك من وجوه المعاصي والمفاسد والآثام وما يتفرع عن ذلك من قضايا ومشكلات تجرجر المتاعب والشدائد ونسبب الهموم والبلايا .
أما سبب إدراك الملائكة لهذه الحقيقة من الإفساد وسفك الدماء: فلعل ذلك لعلم قد علموه من الله بوجه من الوجوه كالإلهام أو غيره ،فهم لا يعلمون الغيب ،لكنهم أعلموا أن بني آدم لو جاءوا الى هذه الأرض فسوف يكثر الفساد ،وتنتشر الآثام والمعاصي ،ويقع القتل والجور وسفك الدماء بغير حق ،وقد جاء في تعليل معرفة الملائكة كذلك أنهم قد أدركوا هذه الحقيقة من خلال اللفظة القرآنية التي واجههم بها الله وهي (خليفة (فعرفوا بما أوتوه من نباهة وعميق إدراك أن الخلافة مناط القضاء والفصل بين العباد ،وفي ذلك من المنازعات والخصومات ما يقود في الغالب إلى المحظورات والخطايا والمعاصي ،وقيل غير ذلك من تأويلات والله أعلم بالصواب .
ويستفاد من قوله تعالى: (جاعل في الأرض خليفة (وجوب نصب إمام أو خليفة للمسلمين يسمعون له ويطيعون ،لتجتمع به كلمتهم وينفذ فيهم أحكام الشريعة فيفصل بين الناس فيما يعرض لهم من خلافات ومنازعات فينتصر لمظلومهم من ظالمهم ،ويقيم فيهم حدود الله بما يزجرهم عن فعل الفواحش والمنكرات إلى غير ذلك مما لا يمكن إقامته أو تنفيذه إلا بالإمام المسلم العادل ،وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
أما طريقة اختيار الخليفة للمسلمين فأوسط ذلك وأعدله أن يجتمع أهل الحل والعقد – وهم فئة العلماء في المسلمين – فينظروا أكثر الناس صلاحا لحمل هذه الأمانة الكؤود ،لينصبوه إماما للمسلمين ،فإذا رضي من نصبوه لذلك بحمل أمانة الخلافة بايعه أهل الحل والعقد ،ثم بادره المسلمون جميعا بالبيعة بعد أن يعرض على مسامع الناس برامجه وخططه في سياسة البلاد ورعاية شؤون المسلمين .
أما الواجبات المنوطة بالإمام والتي يضطلع بمراعاتها وتنفيذها دون لين أو تردد فقد ذكرها الماوردي بما نوجزها هنا إيجازا وهي عشرة أشياء .
الأول: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة .
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم .
الثالث: حماية البيضة{[38]} والذب عن الحريم{[39]} لينصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال .
الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك ،وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون منها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما .
السادس: جهاد من عائد الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله في إظهاره على الدين كله .
السابع: جناية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف .
الثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير .
التاسع: استكفاء الأمناء{[40]} وتقليد النصحاء{[41]} فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال .
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ،لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض{[42]} تشاغلا بلذة أو عبادة ،فقد يخون الأمين وبغش الناصح{[43]} .
ويشترط في الإمام كيما تناط به وجيبة الإمامة جملة شروط هي:
أولا: الإسلام فلا يجوز بحال أن تناط إمامة المسلمين بغير مسلم ،وكيف يعقل أن يكون حاكم المسلمين على غير ملتهم ثم يسوسهم بشريعة الله التي يجحدها ويستدل على ذلك بقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (وهذا يدل بظاهره على أن الذي يلي أمور المسلمين هو أحدهم وعلى ملتهم .
ثانيا: الذكورة فإنه لا يكون حاكم المسلمين إلا واحدا من الرجال ،ولا يجوز أن تناط إمامة المسلمين أو ولايتهم بامرأة لقوله عليه الصلاة والسلام ، "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ".{[44]}
أما وجه ذلك من المعقول: فهو أن وجيبة الخلافة أو الولاية ثقيلة وصعبة وكؤود إنها وجيبة لا يقوى على احتمالها غير الصناديد النوادر من الرجال أولي العزم والحزم والبأس ،لا جرم أن الإمامة أو الولاية لا يطيقها الناس برمتهم أو جلتهم ،وذلك بالنظر لفداحة هذه المهمة الخطرة التي تضطرب لها عزائم الرجال وهممهم فهي لا يصلح لها من الناس إلا من كان لا يلين ولا يضطرب ولا يتعثر لدى مواجهة الملمات والنوائب ،وذلك – لعمر الحق- عمل فادح ومزلزل لا يطيقه إلا من أوتي حظا هائلا من قوة الإرادة والصبر ،وشدة العزيمة والبأس فضلا عن أوصاف أخريات في العلم والحلم والخلق ،لا جرم أن ذلك مما تنكص دون بلوغه النساء اللواتي جبلن على الرقة والعاطفة واللين تمشيا مع طبيعة الأنوثة التي لا تطيق مثل هذه الوجيبة الشاقة العسيرة ،أما توليها لوظيفة القضاء فلا يجوز كذلك ،وهو قول أكثر العلماء خلافا للحنفية إذ قالوا بجواز تقلدها القضاء ،فلها أن تقضي في عامة الأمور باستثناء الدماء والحدود .
ثالثا: العدالة وهي ضد الفسق ،ويراد بها الاعتدال في الأحوال الدينية ،وبيان ذلك اجتناب الكبائر والمحافظة على المروءة بترك الصغائر ،وأن يكون الإمام ظاهر الأمانة غير مغفل .
وقال ابن حزم في صفة الإمام:إن يكون مجتنبا للكبائر مستترا بالصغائر .{[45]}
رابعا: العلم الذي يكون بمقتضاه مجتهدا في مختلف النوازل والأحكام قال القرطبي في ذلك: أن يكون ( الإمام ) ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث .
خامسا: السلامة من العيوب وذلك كالعيوب البدنية ،كما لو كان فاقدا أرجليه أو إحداهما ،أوز كان فاقدا ليديه أو إحداهما أو كان ضريرا لا يبصر ،أو أصم لا يسمع ،أو كان أخرس لا ينطق ،فتلك عيوب لا يستطيع المرء معها من تولي أمر الناس ،فالذي تناط به وجيبة الإمامة ينبغي أن يكون على غاية من النشاط والحركة وتمام اليقظة والحذر وبالغ الاهتمام واليقظة والحرص ،وتمام القدرة على الإقناع وفض النزاعات والخصومات .
وكذلك العيوب العقلية ،كالجنون والعته والصرع وانفصام الشخصية ،واضطراب الأعصاب المستديم إلى غير ذلك من الأمراض المزمنة والخطيرة التي تحول بين المصاب بها وبين تولي أمور المسلمين .{[46]}
سادسا: أن يكون الإمام من قريش إلا أن يطرأ زمان فلا يكون في قريش إمام مناسب تتوفر فيه شروط الإمام العادل الصالح ،وحينئذ لا بأس في اختيار الإمام من غير قريش ،{[47]}
ما رواه الحاكم والبيهقي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم ،قال:"الأئمة من قريش "{[48]} وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته تعليلا لاشتراط الإمامة من قريش وذلك من وجهين:
الوجه الأول: مجرد التبرك من قريش لكونها موطن النبوة .
الوجه الثاني: الغلبة التي كانت لقريش ،وذلك لقوة سلطانهم ونفوذهم بما يحمل الناس على السمع والطاعة بعيدا عن الفتنة والاضطراب .{[49]}
سابعا: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحروب وإعداد الجيوش والتخطيطلقتال العدو في حنكة وبراعة واقتدار .
تاسعا: أن يكون بالغا عاقلا ،وهو ما لا خلاف فيه .{[50]}
وإذا انبرم العقد للإمام فنصب خليفة للمسلمين ثم أصبح بعد ذلك فاسقا فسقا ظاهرا معلوما ،فإنه تتفسخ إمامته ويخلع بفسقه الظاهر المعلوم ،ووجه ذلك: أن للإمام إنما نصب للإمامة لتنفيذ شريعة الله بين العباد بإقامة الحدود واستيفاء الحقوق والنظر في شؤون المسلمين بما يصلح حالهم ،فإذا بات الإمام فاسقا كان ذلك مدعاة لإبطال ما أقيم لأجله ،والحيلولة دون قيامه بواجب الرعاية للمسلمين فوجب بذلك خلعه ،وهو قول الجمهور وقال آخرون: لا ينعزل بالفسق بل ينعزل بالكفر أو بترك شيء من الشريعة ،وذلك للخير:"إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ".
وإذا انعقدت الإمامة لأحد المسلمين باتفاق أهل الحل والعقد وجب على الناس جميعا أن يبايعوه على السمع والطاعة وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أبى البيعة لعذر عذر ،أما من أبى لغير عذر كان ناكفا مريئا فيجبر على المبايعة كيلا تفترق كلمة المسلمين .{[51]}
قوله: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (تسبيح الله هو تنزيهه عن النقائص والعيوب وذلك من السبح وهو لغة الذهاب ،أي أن المسبح ذاهب في عبادة الله وتقديسه وفي تنزيهه عما لا يليق بجلاله ،أما التقديس فهو التطهير ويؤخذ من ذلك المقدس والقدس أي الظاهر النقي ،ومنه بيت المقدس حيث يتطهر العبد فيه بالعبادة والصلاة والتحنث من الأخطاء والذنوب .
قوله: (قال إني أعلم ما لا تعلمون (الله جل وعلا يعلم ما لا تعلمه الملائكة ،إنه سبحانه عليم بما كان وما هو كائن أو سوف يكون وقد جاء في إعراب (أعلم (قولان: أحدهما أن ذلك فعل مضارع وهو في تقديرنا الراجح ،وعلى ذلك تكون ما اسم موصول في محل نصب مفعول به وقيل: اسم بمعنى عالم فيكون بذلك مضافا ،وما مضافا إليهوالله سبحانه وتعالى عالم بما سيكون عليه هذا الإنسان الخليفة وبما سيؤول إليه من أحداث ومعطيات وما يتحقق على يديه من ظواهر غاية في الضخامة والعجب ،وغاية في الأهمية وبالغ التأثير بما ينطوي عليه ذلك كله من جليل القضايا في العقيدة والإيمان وما ينشأ عن ذلك من روائع ومثاليات تحار لها الملائكة وتعجب .
الله جل وعلا يعلم أن سيكون من نسل آدم الخليفة أنبياء ومرسلون ودعاة الى الله بإحسان ،وأن سيكون من ذريته أتقياء بررة ،ينشرون في الأرض منهج الخير والعدل ،ويرسون فيها أسباب الهداية والاستقامة ،وأن سيكون كذلك أجيال وأمم يؤمنون بالله ويدينون بدينه الذي يحوي كطل قواعد الحق والخير ،ويندد بكل بواعث الجريمة والشر .