/م30
وبهذه المناسبة تقول الآية الأولى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ،والخليفة هو النائب عن الغير .أما هذا الغير الذي ينوب الإِنسان عنه فاختلفت فيه أقوال المفسرين ....
منهم من قال إنه خليفة الملائكة الذين كانوا يسكنون من قبل على ظهر الأرض .ومنهم من قال إنه خليفة بشر آخرين أو موجودات أخرى كانت تعيش قبل ذلك على الأرض .
وذهب بعضهم إلى أن الخليفة إشارة إلى أن كل جيل من البشر يخلف الجيل السابق .
والحق أن المقصود بالخليفة هو خليفة الله ونائبه على ظهر الأرض ،كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين .لأن سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى ،لأن نيابة الله في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء .
مسألة «تعليم الأسماء » لآدم التي سيأتي شرحها ،وهكذا سجود الملائكة لآدم من أدلة ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الخليفة .
الإمام جعفر بن محمّد الصّادق( عليه السلام ) يشير أيضاً إلى هذا المعنى في تفسير هذه الآيات إذ يقول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ حُجَجِهِ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ وَهُمْ أرْواحٌ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِؤُنِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بِأَنَّكُمْ أَحَقُّ بِالْخِلاَفَةِ فِي الأَرْضِ لِتَسبِيحِكُمْ وَتَقْديسِكُمْ مِنْ آدَمَ فَقَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَئَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَفُوا عَلَى عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ عَزِّ ذِكْرُهُ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونوا خُلَفَاءَ اللهِ في أرْضِهِ وَحُجَجَهِ عَلى بَرِيَّتِهِ ثُمَّ غَيَّبَهُمْ عَنْ أَبْصَارِهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ بِوِلاَيَتِهِمْ وَمَحبَّتِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »{[110]} .نقلا عن معاني الأخبار ،وهذا الحديث وإن كان يوضح أكثر مكانة الأنبياء والأئمةلا ينحصر بهذه الصفوة المقدسة بل إنهم المصداق الأتم والأكمل لهذا الموضوع ) .
ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لربّ العالمين مستفسرين لا معترضين: ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ؟
الله سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية: ( قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلمُونَ ) .
الملائكة كانوا عالمينكما يبدو من تساؤلهمأن هذا الإنسان موجود يفسد في الأرض ويسفك الدماء ،فكيف عرفوا ذلك ؟!
قيل إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل على وجه الإِجمال مستقبل الإِنسان ،وقيل إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة «في الأرض » ،لأنهم علموا أن هذا الإِنسان يخلق من التراب ،والمادة لمحدوديتها هي حتماً مركز للتنافس والنزاع .وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص في الإنسان .وهذه الدنيا لو وضعت بأجمعها في فم الإنسان فقد لا تشبعه .وهذا الوضعإن لم يقترن بالإِلتزام والشعور بالمسؤوليةيؤدي إلى الفساد وسفك الدماء .
بعض المفسرين ذهب إلى أنّ تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت آدم ،وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت في الملائكة انطباعاً مرّاً عن موجودات الأرض .
هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها .وقد يكون موقف الملائكة من استخلاف آدم ناشئاً عن هذه الأسباب الثلاثة معاً .
الملائكة بيّنوا حقيقة من الحقائق .ولذلك لم ينكر الله عليهم قولهم ،بل أشار إلى أن ثمة حقائق أخرى إلى جانب هذه الحقيقة ،حقائق ترتبط بمكانة الإنسان في الوجود ؛وهذا ما لم تعرفه الملائكة .
الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة ،وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملا لذلك ،فهم في العبادة غارقون .ولذلك فهمأكثر من غيرهمللخلافة لائقون ،غير عالمين أن بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات ،والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم ، وهم خالون من كل هذه المؤثراتبون شاسع .فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية ،من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن ؟!
ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمّة من أهل البيت( عليهم السلام )وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحّون من الرجال والنساء الذين قدّموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي ،والذين تساوي ساعة من تفكّرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة .
الجدير بالذكر ،إن الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة أمور: التسبيح والحمد ،والتقديس ،أمّا التسبيح والحمد فمعناهما واضح .وهو تنزيه الله عزّ وجلّ من كل نقص والاعتراف له بكل كمال وجمال .أمّا ما هو معنى التقديس ؟البعض يرى أنه عبارة عن تنزيه الله عزّ وجلّ عن كل نقص .وهو معنى التسبيح المتقدم .ولكن آخرين ذهبوا إلى أن التقديس من مادة «قدس » أي تطهير الأرض من الفاسدين والمفسدين .أو تطهير النفس من كل رذيلة .أو تطهير الجسم والروح للّه .والشاهد على ذلك كلمة «لك » ،في جملة «نقدس لك » لأن الملائكة لم يقولوا «نقدسك » بل «نقدس لك » ،أي نسطهر المجتمع والأرض لك .
وفي الحقيقة أن مرادهم هو القول بأن الهدف إذا كان هو الطاعة والعبودية فنحن على أتمّ الاستعداد .ولو كان هو العبادة فنحن في هذه الحالة دائماً ،وإذا كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الأرض فسوف ننفذ هذا الأمر .في حين أن الإنسان المادي مضافاً إلى فساده .فانه يفسد الأرض .
ومن أجل أن تتضح الحقيقة للملائكة أقدم الله سبحانه على هذه التجربة ليعلموا الفرق الشاسع بينهم وبين آدم( عليه السلام ) .
/خ33