/م28
بعد ذكر نعمة الحياة والإِشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد ،تشير الآية إلى واحدة أخرى من النعمّ الإِلهية السابقة وتقول: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَميِعاً ) .
وبهذا تعيّن الآية قيمة الإِنسان في هذه الأرض ،وسيادته على ما فيها من موجودات .ومنها نستطيع أن نفهم المهمّة العظيمة الثقيلة الموكولة إلى هذا المخلوق في ساحة الوجود .
وفي القرآن آيات أخرى تؤكد على مكانة الإِنسان السامية ،وتوضّح أن هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون .
( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) الجاثية ،13
وثمة آيات أخرى تحدثت عن هذا المفهوم بالتفصيل كقوله تعالى{[105]} .
( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ...) إبراهيم ،32 ..
( وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ...) إبراهيم ،32 ..
( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ ...) إبراهيم ،33 .
( وَسَخَّرَ لَكْمُ الْبَحْرَ ...) الجاثية ،12 .
( وَسَخَرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ ...) إبراهيم ،33 .
وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول: ( ثُمَّ استَوى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ ) .
الفعل «استوى » من «الاستواء » وهو التسلط والإِحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير ،وكلمة «ثم » في الآية لا تعني لزاماً التأخير الزماني ،بل تعني أيضاً التأخير في البيان وتوالي في ذكر الحقائق .
1التناسخ أو عودة الأرواح:
الآية المذكورة أعلاه من الآيات التي ترفض بوضوح فكرة التناسخ ،فالمعتقدون بالتناسخ يؤمنون بأن الإِنسان يعود بعد الموت ثانية إلى هذه الحياة ،بعد أن تحلّ روحه في جسم آخر ( ونطفة أخرى ) ،ويحيا في هذه الدنيا حياة أخرى ،وقد تتكرر هذه العودة مرات ،وتكرر هذه الحياة يسمى بالتناسخ أو عودة الأرواح .
الآية تصرح بعدم وجود أكثر من حياة واحدة بعد الموت ،هي حياة البعث والنشور .وبعبارة أخرى توضح الآية أن للإنسان حياتين ومماتين لا أكثر ،وكان الإنسان ميتاً يوم كان جزءاً من الطبيعة غير الحيّة ،ثم أحياه الله يوم ولد ،ثم يميته ،ثم يعيده .ولو كان التناسخ صحيحاً لكان للإِنسان أكثر من مماتين وحياتين .
هذا المفهوم مذكور في آيات أخرى أيضاً ،سنشير إليه في موضعه{[106]} .
فكرة التناسخ إذن مرفوضة قرآنياً ،كما أنّها مرفوضة عقلياً ،وهي نوع من الرجعية والإِنتكاس في قانون التكامل{[107]} .
جدير بالذكر أنّ هذه الآية لا تشير إلى الحياة البرزخية ( الحياة بين الموت والنشور ) كما توهم البعض ،بل إلى الحياة بعد الموت في هذه الدنيا ( إحياء الإِنسان بعد تكونه من مواد طبيعيّة ميتة ) ،ثم الموت بعد هذه الحياة الدنيوية ،ثم الحياة الأخرى ،واستمرار المسيرة التكاملية نحو الله .
2السّماوات السّبع
كلمة «سماء » تشير إلى جهة عليا ،ولها مفهوم واسع ذو مصاديق مختلفة .ولذلك كان لها استعمالات عديدة في القرآن الكريم:
1أطلقت أحياناً على «الجهة العليا » المجاورة للأرض كقوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) إبراهيم ،24 .
2وعنى بها القرآن تارة المنطقة البعيدة عن سطح الأرض: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً ) ق ،9
3عبّر القرآن بها في موضع آخر عن ( الغلاف الجوي ) المحيط بالأرض: ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ) الأنبياء ،32 .لأن هذا الغلاف يقي الكرة الأرضية من الصخور السماوية ( النيازك ) التي تتجه إلى الأرض ليلا ونهاراً بفعل جاذبية الأرض ،لكن اصطدام هذه الصخور بجوّ الأرض يؤدي إلى اشتعالها ومن ثم تحوّلها إلى رماد .
4وأراد القرآن بالسماء في موضع آخر ( الكرات العليا ): ( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) فصلت ،11
نعود الآن إلى «السماوات السبع » لنرى ما المقصود من هذا العدد .تعددت آراء المفسرين والعلماء المسلمين في ذلك .
1منهم من قال إنها السّيارات السّبع{[108]} في اصطلاح الفلكيين القدماء: أي عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس .
2ومنهم من قال إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية .
3ومنهم من قال إن العدد ( سبعة ) لا يراد به هذا العدد المعروف ،بل يراد به الكثرة ،أي أن معنى «السماوات السبع » هو السماوات والكرات الكثيرة في الكون .
ولهذا نظير في كلام العرب وفي القرآن ،كقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ) ( لقمان ،27 ) .
وواضح أن المقصود بالسبعة في هذه الآية ليس العدد المعروف ،لأن علم الله لا ينتهي حتى ولو أن البحر يمده من بعده الآلاف المؤلفة من الأبحر .
4الأصح في رأينا أن المقصود بالسماوات السبع ،هو وجود سبع سماوات بهذا العدد .وتكرر هذه العبارة في آيات الذكر الحكيم يدل على أن العدد المذكور في هذا الآيات لا يعني الكثرة ،بل يعني العدد الخاص بالذات .
ويستفاد من آيات أخرى أن كل الكرات والسيّارات المشهودة هي جزء من السماء الأولى ،وثمة ستة عوالم أخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم .وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع .
يقول تعالى: ( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ ) ( فصلت ،12 ) .
ويقول أيضاً: ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَة الْكَوَاكِبِ ) ( الصافات ،6 ) .
ويتضح من هاتين الآيتين أن ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الأولى ،وما وراء هذه السماء ست سماوات أخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها .
نحن نرى اليوم أنه كلما تقدمت العلوم الناقصة للبشر اكتشفت عجائب ومجاهيل عظيمة .علم الفلك تقدّم إلى مرحلة بعيدة جداً في الرصد عن طريق التلسكوبات ،ثم توقفت قدرة الرؤية إلى أكثر من ذلك .
أبعد ما اكتشفته دوائر الأرصاد الفلكي العالمية حتى الآن مسافة في الكون تعادل ألف مليون ( مليار ) سنة ضوئية .والراصدون يعترفون أن أقصى ما اكتشفوه هو بداية الكون لا نهايته .وما يدريك أن العلم سيكتشف في المستقبل سماوات وعوامل أخرى !
من الأفضل أن نسمع هذا الحديث عن لسان مرصد عالمي كبير .
3عظمة الكائنات
المرصد ل «بالومر » يصف عظمة الكون كالآتي:
« ...قبل نصب مرصد بالومر ،كان العالم في نظرنا لا يزيد على خمسمائة سنة ضوئية .لكن هذا الناظور وسّع عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية .واكتشف على أثر ذلك ملايين المجرات الجديدة التي يبعد بعضها عنا ألف مليون سنة ضوئية .أما بعد هذه المسافة فيتراءى لنا فضاء عظيم مهيب مظلم لا نبصر فيه شيئاً ،أي أن النور لا ينفذ إليه كي يؤثر على صفحة التصوير في المرصد .
ومن دون شك أن هذا الفضاء المهيب المظلم يحتوي على مئات الملايين من المجرات التي تحافظ بجاذبيّتها على هذا العالم المرئي .
كل هذا العالم العظيم المرئي الحاوي على مئات آلاف الملايين من المجرات ليس إلا جزءاً صغيراً جداً من عالم أعظم .ولسنا واثقين من عدم وجود عالم آخر غير هذا العالم الأعظم »{[109]} .