البداية من اللّه والنهاية إليه:
] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه[ أيها النّاس ،وأنتم تملكون العقل الذي يتحرّك من خلال مفردات الحسّ الذي يتزوّد بعناصر الفكر ،وطاقة الوعي المتحرّك التي توجهه نحو التأمّل والدراسة والمقارنة بين الأشياء ،والاستنتاج الحيّ المنفتح على حقائق العقيدة والحياة .وللعقل أكثر من طريق يؤدي بكم إلى معرفة اللّه من دون حاجةٍ إلى الاستغراق في التجريد الفكري والعمق الفلسفي ،لأنَّ الواقع الحيّ الذي تعيشونه في وجودكم ،وتتحسّسونه في مشاعركم ،هو الذي يمنحكم الإيمان باللّه من موقع الوجدان المنفتح على الفطرة ،والفكر المتحرّك في نطاق البديهة .] وَكُنتُمْ أَمْواتاً[ قبل وجودكم ،حيث كان العدم هو الأفق الذي يحتويكم في دائرته ،فليس هناك أي شيء يربطكم بالوجود في ذاتياتكم ،أو في الأسباب الطبيعية التي تفرضها طبيعة الأشياء في ذاتها ،الأمر الذي جعل مسألة الحياة بحاجة إلى إرادة الخالق القادر الذي يبدع الحياة في التراب ،ويحوّل الدم إلى نطفة ،لتتطور النطفة في مسيرة الحياة إلى علقة ،فمضغة ،فعظام ،فلحم ،فإنسان سويّ ،تتحرّك فيه الروح ،وينفتح فيه الإحساس ،] فَأَحْيَاكُمْ[،وكانت الحياة هي التي تختصر تفاصيل وجودكم في الوعي والحسّ والحركة والإبداع والإنتاج ،في عملية تكامل مع الوجود الذي ينسجم مع وجودكم ،وتفاعل مع الحياة في تنوعاتها ،ومع الإنسان الآخر في عطاءاته الكثيرة ،وهي التي تنفتح على المسؤوليات التي تجعل لكلّ طاقة قدراً من المسؤولية في بناء الذات على الصورة التي يريدها اللّه وبناء المجتمع على المنهج الذي يرضاه ،لتكون الحياة حياة العقل والحس والوعي والانفتاح على الطاقات الداخلية والخارجية للحياة وللإنسان ،] ثُمَّ يُمِيتُكُمْ[،لتدخلوا من جديد في غياهب الموت الذي يفصلكم عن هذه الحياة التي أبدعها اللّه فيكم ،فيغيب وجودكم عنها ،ويبتعد دوركم عن ساحاتها ،وينقطع أثركم منها ،ولكنَّه ليس الموت الأبدي الذي يموت فيه الوجود بالمطلق ،بل هو الموت الذي تعقبه الحياة في أفق آخر ،وبعد جديد ،وعالم أوسع ،هو عالم الآخرة الذي يطل على الغيب ليضعه في متناول الحس الإنساني ،] ثُمَّ يُحْيِيكُمْ[،لأنَّ القادر على إبداع الحياة أوّلاً قادر على إبداعها ثانياً ،لأنَّ القدرة على الإعادة من موقع المثال الحي أكثر سهولة من إبداع الخلق من دون مثال .
وإذا كان اللّه هو الذي أطلق لكم البداية من إرادته وقدرته ،فمنه المبدأ الذي يعيدكم إلى رعايته من جديد .] ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[ لتواجهوا مسؤولياتكم أمامه ،ليكون لكم الاستقرار الموعود في ثوابه أو عقابه .
إنها الحقيقة الوجودية الإلهية التي ينطلق الحسّ في دلالاتها ،ويتحرّك الإمكان العقلي في نهاياتها ،وهي التي تفرض نفسها على العقل ليُعرف اللّه ،فكيف تكفرون به وتنكرونه ؟
ولما كانت العقيدة باللّه هي الأساس في كلّ هذا الجوّ الذي تتحرّك فيه السورة ،في حديثها عن المؤمنين والكافرين والمنافقين ،ولما كان الكفر كشيء يدعو إلى التعجب والاستنكار ،لا إلى التفكير والتأمّل ،لأنَّ القضية أوضح من أن تخفى ،لهذا ،واجه الموقف بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي للإنسان بأنَّ رفض الكفر لا يحتاج إلى جهد كبير ،بل يكفي فيه الوقوف في حالة تأملية لمراحل وجود الإنسان ؛كيف كان ميتاً لا يحمل أي مظهر من مظاهر الحياة ،وكيف دبّت فيه الحياة في عملية دقيقة رائعة في طريقة النمو والتكامل والكمال ،وكيف يموت بعد ذلك لينتقل إلى الحياة الواسعة ...وهكذا يعيش الإنسان في حياة عقب الموت الذي يعني العدم المحض ،فقد وجدت الحياة من عدم ،ثم تتجه إلى الموت الذي لا يُغرق الإنسان في الضياع ،بل يثير الحياة بقوّة لتقوم قوية جديدة بإذن اللّه الذي ترجع الأمور إليه جميعاً .
هذه الفكرة البسيطة تقدم الإيمان للإنسان ببساطة وجدانية بعيدة عن تعقيدات الفلسفة ومشاكلها ،فلا يحتاج معها إلى الالتفات والاستماع والوعي من دون ابتعاد عن نفسه بالذات ،فمنها تنطلق العقيدة الحقّة وتنمو وتتكامل ،ومن داخل الإنسان ينتقل الموقف إلى رحابة الخلق وإبداعه في رحاب الأرض وآفاق السَّماء ،في دعوة إلى التأمّل الذي يقود إلى المعرفة الواسعة بالحياة في الطريق الرحب إلى الإيمان باللّه خالق ذلك كلّه .