)الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ( البقرة:27 )
التفسير:
قوله تعالى:{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} أي العهد الذي بينهم وبين الله عزّ وجلّ ؛وهو الإيمان به ،وبرسله ؛فإن هذا مأخوذ على كل إنسان ؛إذا جاء رسول بالآية فإن الواجب على كل إنسان أن يؤمن به ؛فهؤلاء نقضوا عهد الله ،ولم يؤمنوا به ،وبرسله ؛والنقض حَلّ الشيء بعد إبرامه ؛وقد بين الله عزّ وجلّ هذا العهد في قوله تعالى:{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} [ المائدة: 12] ..
قوله تعالى:{ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} أي يقطعون كل ما أمر الله به أن يوصل ،كالأرحام ،ونصرة الرسل ،ونصرة الحق ،والدفاع عن الحق ..
قوله تعالى:{ويفسدون في الأرض} أي يسعون لما به فساد الأرض فساداً معنوياً كالمعاصي ؛وفساداً حسياً كتخريب الديار ،وقتل الأنفس ..
قوله تعالى:{أولئك هم الخاسرون}: جملة اسمية مؤكَّدة بضمير الفصل:{هم}؛لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد ؛الفائدة الأولى: التوكيد ؛والفائدة الثانية: الحصر ؛والفائدة الثالثة: إزالة اللبس بين الصفة ،والخبر ؛مثال ذلك: تقول:"زيد الفاضل ": كلمة"الفاضل "يحتمل أن تكون خبراً ؛ويحتمل أن تكون وصفاً ،فتقول:"زيد الفاضل محبوب "؛إذا قلت:"زيد الفاضل محبوب "تعين أن تكون صفة ؛وإذا قلت:"زيد الفاضل "يحتمل أن تكون صفة ،والخبر لم يأت بعد ؛ويحتمل أن تكون خبراً ؛فإذا قلت:"زيد هو الفاضل "تعين أن تكون خبراً لوجود ضمير الفصل ؛ولهذا سُمي ضمير فصل .لفصله بين الوصف والخبر ؛الفائدة الثانية: التوكيد؛إذا قلت:"زيد هو الفاضل "كان أبلغ من قولك:"زيد الفاضل "؛و الفائدة الثالثة: الحصر؛فإنك إذا قلت:"زيد هو الفاضل "فقد حصرت هذا الوصف فيه دون غيره ؛وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب ،كما في قوله تعالى:{لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} [ الشعراء: 40]؛ولو كان له محل من الإعراب لكانت:"هم الغالبون "؛وربما يضاف إليه اللام ،كما في قوله تعالى:{إن هذا لهو القصص الحق} [ آل عمران: 62]؛فيكون في إضافة اللام إليه زيادة توكيد ..
وقوله تعالى:{الخاسرون}؛ "الخاسر "هو الذي فاته الربح ؛وذلك ؛لأن هؤلاء فاتهم الربح الذي ربحه من لم ينقض عهد الله من بعد ميثاقه ،ولم يقطع ما أمر الله به أن يوصل ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: أن نقض عهد الله من الفسق ؛لقوله تعالى:{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} فكلما رأيت شخصاً قد فرط في واجب ،أو فعل محرماً فإن هذا نقض للعهد من بعد الميثاق ..
. 2ومنها: التحذير من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ؛لأن ذلك يكون سبباً للفسق ..
. 3ومنها: التحذير من قطع ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام .أي الأقارب .وغيرهم ؛لأن الله ذكر ذلك في مقام الذم ؛وقطع الأرحام من كبائر الذنوب ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قاطع "{[70]} ،يعني قاطع رحم ..
. 4 ومنها: أن المعاصي والفسوق سبب للفساد في الأرض ،كما قال تعالى:{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [ الروم: 41]؛ولهذا إذا قحط المطر ،وأجدبت الأرض ،ورجع الناس إلى ربهم ،وأقاموا صلاة الاستسقاء ،وتضرعوا إليه سبحانه وتعالى ،وتابوا إليه ،أغاثهم الله عزّ وجلّ ؛وقد قال نوح عليه السلام لقومه:{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لهم أنهاراً} [ نوح: 10 .12] ..
فإن قال قائل: أليس يوجد في الأرض من هم صلحاء قائمون بأمر الله مؤدون لحقوق عباد الله ومع ذلك نجد الفساد في الأرض ؟
فالجواب: أن هذا الإيراد أوردته أم المؤمنين زينب رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"ويل للعرب من شر قد اقترب "؛قالت: أنهلك وفينا الصالحون ؟!قالصلى الله عليه وسلم:"نعم ،إذا كثر الخبث "{[71]}؛وقوله صلى الله عليه وسلم"إذا كثر الخبث "يشمل معنيين: .
أحدهما: أن يكثر الخبث في العاملين بحيث يكون عامة الناس على هذا الوصف ..
و الثاني: أن يكثر فعل الخبث بأنواعه من فئة قليلة ،لكن لا تقوم الفئة الصالحة بإنكاره ؛فمثلاً إذا كثر الكفار في أرض كان ذلك سبباً للشر ،والبلاء ؛لأن الكفار نجس ؛فكثرتهم كثرة خبث ؛وإذا كثرت أفعال المعاصي كان ذلك سبباً أيضاً للشر ،والبلاء ؛لأن المعاصي خبث ..
. 5ومن فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اعترضوا على الله فيما ضرب من الأمثال ،ونقضوا عهده ،وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ،وأفسدوا في الأرض هم الخاسرون .وإن ظنوا أنهم يحسنون صنعاً ..