الأمثال في القرآن
{إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين( 26 ) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون( 27 )}
المفردات:
مثلا ما: أي مثل كان ،وضرب المثل استعماله فيما ضرب له أي فيما ذكر له .
بعوضة: البعوضة واحدة البعوض وهو نوع صغير من الذباب .
الفاسقين: الخارجين عن طاعة الله .
ضرب الأمثال:
ضرب الله الأمثال في القرآن لتقريب المعنى الى الأذهان ،وإظهار المعقول في صورة المحسوس ،وقد أخبر سبحانه أنه لايستصغر شيئا يضرب به مثلا ،ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ،كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قولهتعالى: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب . ( الحج 73 ) .وقال سبحانه: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . ( العنكبوت 41 ) .
كما ضرب سبحانه مثلا للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ،وللكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة ( 56 ) .وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه في أمور كثيرة منها: التذكير ،والوعظ والحث والزجر والتقرير ،وتقريب المراد للعقل ،وتصويره بصورة المحسوس ؛فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص ،لأنها أثبتت في الأذهان لاستعانة الذهن منها بالحواس ،ومن ثم كان الغرض تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد( 57 ) .
والأمثال في القرآن مقصود بها إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة .والعبرة في المثل ليست في الحجم والشكل ،وإنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير ،وليس في ضرب الأمثال ما يعاب .
وما من شأنه الحياء من ذكره ،لأن العبرة ليست في لفظ المثل ،لكن في مدلوله وفي المعنى الذي يعبر .فإذا رأيت إنسانا مترددا وقلت له ( أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ) ،كان المقصود هنا الإقدام على أمر ثم الإحجام عنه .
وضرب المثل بالذباب والعنكبوت ،مقصود به مدلول المثل لا لفظه ،( فما استنكره السفهاء وأهل العناد والمراء واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثلليس بموضع للاستنكار والاستغراب من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب وإدناء المتوهم من المشاهد ،فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله ،وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ) . ( 58 ) .
التفسير:
يقررسبحانهأنه لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن ،مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما هو أعظم منها في الحجم كالذباب والعنكبوت وغيرهما ،فأما الذين آمنوا فيقبلون على تدبر هذه الأمثال ،لأنها وحي من الله لتعينهم على فهم المعاني الصحيحة .
وأما الكافرون منهم الذين يتمحلون ويتساءلون عن مدى مراد الله منها ،وليس غرضهم بهذا السؤال الاستفهام عن الحكمة من ضرب الأمثال ،بنحو العنكبوت والذباب ،بل غرضهم الإيذان بما فيها من الدناءة والحقارة بحيث لا يليق أن يريد الله شيئا من التمثيل بها لهذا يستحيل صدور التمثيل بها عن الله ( وإنما يقول هذه الأمثال محمد من تلقاء نفسه ) ( 59 ) .
وأن الله ليضل بالأمثال القرآنية كثيرين ممن ساء اختيارهم وأظلمت قلوبهم ،ويهدي بها كثيرا ممن حسن اختيارهم واستنارت قلوبهم .
{وما يضل به إلا الفاسقين} .الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق إلى النفاق والضلال ،فجزاؤهم زيادتهم ممن هم فيه ،قال ابن مسعود وغيره .{يضل به كثيرا} .يعني به المنافقين ،ويهدي به كثيرا .يعني به المؤمنين( 60 ) .
سبب النزول:
روى المفسرون ( 61 ) عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلموالتابعين روايتين كسبب لنزول هذه الآية:{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ...}
الرواية الأولى: تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون ،أو قال اليهود والمشركون معا: ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة ،إنه أجل من أن يضرب بها الأمثال .
الرواية الثانية: جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين السابقين للمنافقين قال المنافقون: الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال( 62 ) .
وقد ذكر صاحب التفسير الحديث أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام .وأرى أن الرواية الأولى أكثر اتساقا مع مدلول الآية ،لأن ضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت والنمل واستبعاد المنافقين أو المشركين أن يصدر ذلك عن الله أنسب للآية التي نفسرها .
وقد ذكر الرواية الأولى وحدها مقاتل بن سليمان في تفسيره ،وأوردها ابن كثير مع الرواية الأخرى من غير ترجيح إحداهما ؛والله حين يضرب المثل للمنافقين فيما سبق ضرب لهم مثلين أحدهما ناري والآخر مائي ،وليس أحدهما بالحقير ولا بالصغير ،وهذا يرجح عند الرواية الأولى .