{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ{26} الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{27} كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{29}} .
في الآيتين الأوليين: تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها .فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا ؛لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا الحق والحكمة .وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون ،تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها .وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين ،غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية .الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض ،ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا .
وفي الآيتين الأخيرتين: تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله ،وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم ،وإليه مرجعهم في النهاية .كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا ،وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات ،وهو العليم بكل شيء .
وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة{وكنتم أمواتا} هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء ،وهو تأويل وجيه .
ولقد روى المفسرون عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى .واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا: ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة ،وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال .والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي{مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} و{كصيّب من السماء} للمنافقين قال المنافقون: الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال .
والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام ،ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا ،وإنما ذكر{الذين كفروا} فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر .وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم .ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا ،فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا ،وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها .وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة .ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم .
والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة .وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه ،وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم ؛لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته .
وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا: أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل ،وثانيا: أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به ،وثالثا: أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت ،ومن كون مرجعهم إليه .والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا –أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين{[190]}- مما يعترف به الكافرون المشركون ؛حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة .وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار ،وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة .
ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة ،والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين .
والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر .ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار{[191]} .
تعليق على جملة
{وما يضل به إلا الفاسقين}
وما بعدها
وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال ،حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق ،وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه ،وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار ،فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها ،مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة .
وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين ،ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به ،ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم ،وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن ،ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم .
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون ،ومنها أنهم كفار أهل الكتاب ،ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا .بل هناك من قال: إنهم الخوارج .والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق .والأفعال المنسوبة إلى ( الفاسقين ) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا ،وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض .وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان .ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين ،وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك .
ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها .