بشارة الآخرة:
لقد جرى الأسلوب القرآني على الحديث عمّا ينتظر المؤمنين من رضوان اللّه وثوابه جزاءً لإيمانهم وعملهم الصالح في كلّ مورد يتحدّث فيه عن الكافرين وعمّا ينتظرهم من عذاب النّار جزاءً لكفرهم وطغيانهم .وقد جرت هذه الآية على هذا الأسلوب ،بدعوة النبيّ ( ص ) إلى تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار ،والتي تشبه أثمارها أثمار الدنيا ،حتى يخيّل إليهم أن هذه الثمرات امتداد لما كانوا يجدونه منها في الدنيا لتشابهها .ثُمَّ يحدّثنا اللّه عن المتع الحسية التي تنتظرهم في الآخرة ،وذلك في ما يعدّه لهم من أزواج مطهّرة ،بكلّ ما تعنيه كلمة الطهارة من معاني الروح والجسد ،حيث تتمّ لهم بذلك نعم اللّه وألطافه في حياة خالدة لا شقاء فيها ولا فناء ،بل هو الخلود السابح في رحمة اللّه ورضوانه .
اللذة الحسيّة لا تتنافى والسموّ الروحي:
وقد يثير بعض النّاس في هذا المجال تساؤلاً عن مدى إمكانية انسجام الجانب الحسي للمتع التي يَعِدُ اللّه بها عباده في الآخرة ،من لذائذ الطعام والشراب والجنس وغيرها ،وطبيعة الآيات التي تعرّضت لذلك بالجانب الرمزي ،الذي يعبر عن المداليل المعنوية بالكلمات التي توحي بالمعاني الحسية كأسلوب من أساليب تقريب الفكرة إلى الأذهان ،لأنَّ الإنسان الذي يعيش عالم الحس ،لا يستطيع إدراك عالم المجردات والمعاني في إطاره المادي الذي يعيش فيه ،لأنَّ الصورة الفكرية تابعة للمشاهدات الحسية ،في ما يُراد تجسيد الصورة له في وجدان الإنسان وفكره ،فتنطلق المحاولة باعتماد وسائل الإيضاح الحسية ،تماماً كما هو الأسلوب العملي في تربية الأطفال ،لنقل المعاني إلى وجدانهم من خلال الصورة المجسدة عندهم ،والمعروفة لديهم .
ولا ندري ما هو السبب في هذا كلّه ؛هل هو الفكرة التي ترى في الجانب الحسي شيئاً لا ينسجم مع طبيعة الجنّة باعتبار ما يستلزمه ذلك من إفرازات جسدية لا تتناسب مع قداستها ،أم هي الفكرة التي تجعل من الجنّة والنّار رمزين لحقيقتين معنويتين يمثّلان الإحساس الروحي بالرضى والسعادة ،أو بالقلق والتعب والشقاء ؟ولكنَّنا لا نستطيع الاقتناع بذلك ،لأنَّ الفكرة الأولى قد تكون خاضعةً للرأي الذي يعتبر الملذّات الحسية شيئاً يتنافى مع السمو الروحي الذي تمثّله الدار الآخرة ،لأنَّ المادة تمثّل القذارة والانحطاط ،ولكنَّها فكرة غير إسلامية ،لأنَّ الإسلام لم يرفض المادة من خلال طبيعتها أو إفرازاتها ،بل جلّ ما رفضه منها ،ليس ما يتصل بها مباشرة ،وإنما ما يتصل بموقفنا الإنساني منها لجهة الاستغراق في لذائذها بالمستوى الذي يُبعدنا عن اللّه ويدفعنا إلى تجاوز حدوده وعصيان أوامره .
وهذا ما نستطيع استخلاصه من الآيات الكريمة التي وجهت الإنسان إلى المتع الحسية في الآخرة كبديل عن الحرمان الذي يعانيه من رفض ما يرفضه من محرّماتها ،إلى جانب المتع الروحية التي وعد اللّه بها المتقين ،وذلك في أمثال قوله تعالى:] وَرِضْوانٌ مِّنَ اللّه أَكْبَرُ[ [ التوبة:72] .ولذا لا نجد أي مبرر لتشويه تصوّر الإنسان للجانب الحسي أو المادي من حياته ،ولا سيما في الإطار التربوي الذي يُراد به بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة للإنسان .نعم ،ما يجب الالتفات إليه دوماً ،هو أن تكون العلاقة مع هذا الجانب علاقة متزنة ومتوازنة لا يشوبها الاستغراق ،ولا تحول بين الإنسان وبين التطلع نحو اللّه سبحانه وتعالى ،بحيث تشكل حجاباً يغلّف بصره وبصيرته ،فلا يعود ينظر إلى الأمور كما هي ،ويفتقد معها التوازن الأخلاقي ولا سيما في شخصيته .
الدنيا والآخرة ليستا عالمين متضادّين:
أمّا الفكرة الثانية ،فقد يكون الأساس فيها ،هو اعتبار عالم الآخرة عالم الروح في مقابل عالم الدنيا الذي هو عالم المادة ،ولكنَّنا لا نجد لذلك أيّ أساس فكري في المفاهيم الإسلامية ،لأنَّ التجريد الروحي الذي يمثّل انفصالاً كاملاً عن المادة بأشكاله المتنوّعة ،والذي يمثّل الفكرة التي تعتبر الجسد سجناً للروح ،يرجع إلى الفلسفات اليونانية والهندية ،ولا يرتبط بالفكرة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة .أمّا ما نشاهده من تقرير هذه الفكرة في كتب بعض الفلاسفة المسلمين ،فليس ناشئاً في أغلب الظنّ من المصادر الإسلامية الأصيلة ،بل هو مرتكز على تأملات ذاتية مستمدة من ثقافات فلسفية سابقة .
ونحن لا نمانع في وجود ظلال لهذا التفكير في بعض اللمحات الخاطفة من مصادر الفكر الإسلامي مما يمكن أن يتعلّق به الإنسان في تقرير الفكرة ،ولو من بعيد ،لكنا نريد تأكيد قضية حيوية جداً في دراستنا للفكر الإسلامي ،في مفاهيمه وشريعته ،وهي أنَّ الظواهر القرآنية هي الحجّة التي ندين للّه بما تكشفه لنا من حقائق الإسلام ومفاهيمه ،إلاَّ أن يقوم عندنا دليل آخر على خلاف ذلك من عقل أو نقل .وعلى ضوء هذا ،نرفض كلّ الأفكار الباطنية التي حاولت تفسير الآيات القرآنية تفسيراً رمزياً ،لا يستند إلى أسس عقلية أو شرعية ،بل يرتكز على تأملات فلسفية ،أو شطحات صوفية ..
للذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار:
وبشر اللّه في هذه الآيات] الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ[ تتنوّع ،وتمتد أشجارها وأثمارها ،وتتحرّك كلّ جمالاتها ،بما ينعش الروح ،ويسحر البصر ،ويأخذ باللبّ ؛] تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[ المتدفقة بالحياة الصافية ،العذبة ،الرقراقة ،التي تمنح الأرض الخصب والنموّ والحياة ،لتنبت من كلّ زوج بهيج ،ولتهتز بالخضرة المعشوشبة والثمار اللذيذة .
] كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً[ وتناولوه بأيديهم ،وحدّقوا فيه ،وفي خصائصه ،وفي حجمه ،ولونه ،وشكله ،وتلذذوا بطعمه في عناصره الحلوة الشهية ،] قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ[ في الدنيا فلم يتغيّر علينا شيء مما ألفناه وعرفناه من الثمار ،] وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً[ يشبه بعضه بعضاً في الشكل ،ولكنَّه يختلف في طبيعته ،أو يشبه ثمار الدنيا ،مع تميّزه عنها في الجودة ،أو يشبه بعضه بعضاً في الجودة ،ذلك أنّ لثمار الجنّة خصائصها التي تتميّز عن كلّ ما في الدنيا من لذة ،كما قال اللّه في الحديث عن كلّ ما في الجنّة مما ينتظر المؤمنين والمؤمنات:] فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِي لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ [ السجدة:17] ،فلا يعرف الإنسان ماذا يتخير منها .
] وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ[ من قذارة الروح والجسد ،وربما أريد بهنّ الأبكار بقرينة ما ورد في القرآن عن الحور العين كما في قوله تعالى:] إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً[ [ الواقعة:3537] فتكون الطهارة كناية عن البكارة على هدى قوله تعالى:] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ[ [ الرحمن:56] .وربَّما يُقال: إنَّ الأزواج جمع زوج ،والزوج يطلق على الرّجل والمرأة فيُقال لكلّ واحدٍ منهما زوج ،فتكون الآية مسوقة للحديث عن أزواج الرجال المؤمنين من النساء المطهرات ،وعن أزواج النساء من الرجال المطهرين ،ويكون تأنيث مطهرة بلحاظ الجمع وفيه خفاء .] وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[،لأنَّ الجنّة هي دار البقاء من خلال ما يعلمه اللّه من ذلك في ما قدره لعباده في الآخرة .