قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها ثمرة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (بعد أن خوف الله الكافرين وحذرهم من عذاب النار التي وقودها الناس والحجارة إذا لم يؤمنوا بكتابه ،فإنه بعد ذلك يبشر عباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم جنات تجري تحتها الأنهار ،وذلك الذي يطلق عليه في القرآن"المثاني "وهي الانتقال بالكلام من حال إلى حال أخرى مغايرة ،وذلك مثلما تتناول الآية أو بعض الآيات مسألة العذاب الأليم الذي أعده الله للكافرين والعصاة ،ثم يعقب ذلك بالكلام عن الجنة ونعيمها المقيم ،أو مثلما يتكلم عن ملائكة الرحمة والبشرى ،ثم يبادر الحديث بعد ذلك مباشرة عن ملائكة العذاب الذين تتزلزل لدى رؤيتهم أقدام المجرمين الذين يعيثون في الأرض فسادا ،ذلك الذي عليه الجمهرة الكاثرة من المفسرين وقيل غير ذلك .
وفي هذه الآية يأمر الله بتبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات ،والتبشير هو الإخبار عما يبعث على السرور ،إذ تتبدى علائم البهجة والحبور لدى الإخبار بما يسر .
على أن التبشير بالجنات مشروط بالإيمان الذي يقترن بعمل الصالحات فإنه لا قيمة تذكر للإيمان وحده من غير عمل صالح ،وذلك هو شأن القرآن دائما لدى تنويهه بذكر الإيمان ،فإنه يشفعه بالعمل ليتبين للناس خطورة الإيمان المتجرد الذي لا يعقبه عمل كريم نافع مشروع .
وقوله: (جنات (من الفعل جن أي ستر وغطى ،فالجنات مفردها الجنة وسميت بذلك لأنها تستر من يكون فيها ويستظل بظلها ،ويشتق من ذلك أيضا الجن والجنة بكسر الجيم وهم خلق غير مشهود ،وهم من غير بني البشر ،وقد سموا بذلك لاستتارهم وأنهم لا يرون ،وكذلك الجنين قد سمي بذلك لاستتاره داخل الرحم ،ثم الجنون وهو استتار العقل بما يحول بينه وبين الوعي والإدراك ،ويقال كذلك للترس"مجن "بكسر الميم ،لأن صاحبه يتستر به ليقيه الضربات .{[28]}
ولقد أعد الله للمؤمنين العاملين جنات عظيمة فسيحة وارفة بما لم يطرأ على قلب بشر ولم يتصوره إنسان ،وذلك لفرط الهناء والحسن والروعة التي تظلل هذه الجنات والتي تنساب من بينها الأنهار الدائمة الجارية فتنشر من حولها البهجة والخير والحبور .
وقوله: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل (أي كلما أعطوا من ثمار الجنة شيئا حسبوا أنه شبيه بما أعطوه في الدنيا فقالوا ذلك مثل الذي كان لنا من قبل في الدنيا ،وذلك لتشابه الصنفين في الشكل واختلافهما في الجوهر والمذاق .ويوضح ذلك قوله تعالى: (وأتوا به متشابها (الجملة مستأنفة متشابها حال من الضمير في (به ({[29]} أي أن ثمار الجنة تشبه الحياة الدنيا من حيث الصورة والمظهر والمنظر لكن الصنفين مختلفان تمام الاختلاف من حيث الحقيقة والطعم ،ولذلك فإن المؤمنين إذ يلجون الجنة ثم يرون ثمارها يحسبون لأول وهلة أن هذه الثمار شبيهة بتلك التي يعرفونها حال حياتهم في الأرض قبل الفناء .
ولعل هذا المفهوم المستنبط من هذه الآية يشي بحقيقة مفيدة وهي أن حال هذه الدنيا غير تلك الحال في الآخرة ،وأن بينهما من حيث الحقيقة والجوهر والكيفية والمعنى بونا أكبر ،وشتان شتان ما بين الدارين ،وهما إن اتحدتا لدى الوصف وذلك من حيث الصورة والشكل فإن ذلك لا يتجاوز الاتحاد الذي تحتويه الكلمات وذلك على سبيل التقريب للذهن فقط .أمام الاثنتان من حيث الكيفية وحقيقة التكوين ،ومن حيث الطابع والجوهر وحقيقة ما تجري ،فإنهما من هذه المناحي متنائيان تنائيا غير محدود .
ومن باب التمثيل نقول: تتشابه الدنيا والآخرة بما فيها من نعيم وعذاب ،أو حر وقر ،أو عذب وملح أجاج ،أو ظل وارف ظليل ،وسموم حارق حرور ،أو حزن ممض وسرور مبهج ،وغير ذلك من معان متماثلة أو متنافرة فإن كلا منها في هذه الدنيا يختلف عنها في الدار الآخرة ،والمعنيان إذا تشابها مثلما يتراءى للسامع من خلال الكلمة فإنهما متباعدان أشد التباعد من حيث الحقيقة والمعنى ،وهو الذي ينبغي أن يكون عليه التعويل ،لأنه الأصل ولأنه الجوهر ،وما عدا ذلك من مماثلة في الشكل والصورة فإن ذلك ما لا ينبغي التعويل عليه .
قوله: (ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (وذلك من تمام الخير والنعيم الذي يمنن الله به على عباده الأبرار الذين كتب لهم الجنة ،فإن لهم أزواجا طاهرات وهم جميعا في الجنة خالدون ،وأزواج مفردها زوج ،ويطلق ذلك على الرجل أو المرأة ،فنقول امرأة زوج مثلما نقول رجل زوج ،والزوج يعني الصنف الذي له نظير أو نقيض .{[30]}
والمؤمنون العاملون يكتمل لهم الخير والنعيم في الجنة إذ يجدون لهم فيها أزواجا (مطهرة (وطهارتهن تتجلى في أوصاف شتى من طهارة البدن من خبث الحيض أو النفاس أو البول أو الغائط أو البصاق كما أورد أكثر المفسرين ،أو أن طهارتهن تتسع لتشمل فيهن طابع النفس والروح معا ،فهن بذلك كريمات تقيات طواهر لا يعرفن معنى الدنس ولا تجنح إليه نفوسهن فهن المبرآت العفائف .
قوله: (وهم فيها خالدون (يعود الضمير على الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين امتن الله عليهم بالجنة والزوجات الطاهرات ،فإن ذلك كله من تفضل الله وامتنانه على عباده أن أنعم عليهم بالنعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يتحول .{[31]}