)وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة:25 )
التفسير:
مناسبة الآية لما قبلها أن الله لما ذكر وعيد الكافرين المكذبين للرسولصلى الله عليه وسلم ذكر وعد المؤمنين به ،فقال تعالى:{وبشر ...} الآية ؛و"البشارة "هي الإخبار بما يسر ؛وسميت بذلك لتغير بَشَرة المخاطَب بالسرور ؛لأن الإنسان إذا أُخبر بما يُسِرُّه استنار وجهه ،وطابت نفسه ،وانشرح صدره ؛وقد تستعمل"البشارة "في الإخبار بما يسوء ،كقوله تعالى:{فبشرهم بعذاب أليم} [ آل عمران: 21]: إمَّا تهكماً بهم ؛وإما لأنهم يحصل لهم من الإخبار بهذا ما تتغير به بشرتهم ،وتَسودَّ به وجوههم ،وتُظلِم ،كقوله تعالى في عذابهم يوم القيامة:{ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم} [ الدخان: 48 ،49] ..
والخطاب في قوله تعالى:{بشِّر} إما للرسولصلى الله عليه وسلم ؛أو لكل من يتوجه إليه الخطاب .يعني بشِّر أيها النبي ؛أو بشِّر أيها المخاطَب من اتصفوا بهذه الصفات بأن لهم جنات ..
قوله تعالى:{الذين آمنوا} أي بما يجب الإيمان به مما أخبر الله به ،ورسوله ؛وقد بيَّن الرسولصلى الله عليه وسلم أصول الإيمان بأنها الإيمان بالله ،وملائكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الآخر ،والقدر خيره وشره ؛لكن ليس الإيمان بهذه الأشياء مجرد التصديق بها ؛بل لا بد من قبول ،وإذعان ؛وإلا لما صح الإيمان ..
قوله تعالى:{وعملوا الصالحات} أي عملوا الأعمال الصالحات .وهي الصادرة عن محبة ،وتعظيم لله عزّ وجلّ المتضمنة للإخلاص لله ،والمتابعة لرسول الله ؛فما لا إخلاص فيه فهو فاسد ؛لقول الله تعالى في الحديث القدسي:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك ؛من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "{[65]}؛وما لم يكن على الاتِّباع فهو مردود لا يقبل ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم (:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد{[66]} "..
قوله تعالى:{أن لهم جنات}: هذا المبشر به: أن لهم عند الله عزّ وجلّ{جنات ...}: جمع"جنَّة "؛وهي في اللغة: البستان كثير الأشجار بحيث تغطي الأشجار أرضه ،فتجتن بها ؛والمراد بها شرعاً: الدار التي أعدها الله للمتقين ،فيها ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر ..
قوله تعالى:{تجري من تحتها الأنهار} أي تسيح من تحتها الأنهار ؛و{الأنهار} فاعل{تجري}؛و{من تحتها} قال العلماء: من تحت أشجارها ،وقصورها ؛وليس من تحت سطحها ؛لأن جريانها من تحت سطحها لا فائدة منه ؛وما أحسن جري هذه الأنهار إذا كانت من تحت الأشجار ،والقصور !يجد الإنسان فيها لذة في المنظر قبل أن يتناولها ..
وقد بيّن الله تعالى أنها أربعة أنواع ،كما قال تعالى:{مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفَّى} ( محمد: 15 ) .
قوله تعالى:{كلما رزقوا} أي أعطوا ؛{منها} أي من الجنات ؛{من ثمرة} أي من أيّ ثمرة ؛{قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} لأنه يشبه ما سبقه في حجمه ،ولونه ،وملمسه ،وغير ذلك من صفاته ؛فيظنون أنه هو الأول ؛ولكنه يختلف عنه في الطعم والمذاق اختلافاً عظيماً ؛ولهذا قال تعالى:{وأتوا به متشابهاً}؛وما أجمل وألذّ للإنسان إذا رأى هذه الفاكهة يراها وكأنها شيء واحد ؛فإذا ذاقها وإذا الطعم يختلف اختلافاً عظيماً !تجده يجد في نفسه حركةً لهذا الفاكهة ،ولذةً ،وتعجباً ؛كيف يكون هذا الاختلاف المتباين العظيم والشكل واحد !ولهذا لو قُدم لك فاكهة ألوانها سواء ،وأحجامها سواء ،وملمسها سواء ،ثم إذا ذقتها وإذا هذه حلو خالص ،وهذه مُز .أي حلو مقرون بالحموضة .وهذه حامضة ؛تجد لذة أكثر مما لو كانت على حد سواء ،أو كانت مختلفة ..
قوله تعالى:{وأتوا به متشابهاً}؛{أتوا} من"أتى "التي بمعنى جاء ؛فالمعنى: جيء إليهم به متشابهاً يشبه بعضه بعضاً .كما سبق ..
قوله تعالى:{ولهم فيها أزواج}؛لما ذكر الله الفاكهة ذكر الأزواج ؛لأن في كل منهما تفكهاً ،لكن كل واحد من نوع غير الآخر: هذا تفكه في المذاق ،والمطعم ؛وهذا تفكه آخر من نوع ثان ؛لأن بذلك يتم النعيم ؛و{أزواج} جمع زوج ؛وهو شامل للأزواج من الحور ،ومن نساء الدنيا ؛ويطلق"الزوج "على الذكر ،والأنثى ؛ولهذا يقال للرجل:"زوج "،وللمرأة:"زوج "؛لكن في اصطلاح الفرضيين صاروا يلحقون التاء للأنثى فرقاً بينها وبين الرجل عند قسمة الميراث ..
قوله تعالى:{مطهرة} يشمل طهارة الظاهر ،والباطن ؛فهي مطهرة من الأذى القذر: لا بول ،ولا غائط ،ولا حيض ،ولا نفاس ،ولا استحاضة ،ولا عرق ،ولا بخر ،مطهرة من كل شيء ظاهر حسي ؛مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة ،كالغل ،والحقد ،والكراهية ،والبغضاء ،وغير ذلك ..
قوله تعالى:{هم فيها خالدون} أي ماكثون لا يخرجون منها ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: مشروعية تبشير الإنسان بما يسر ؛لقوله تعالى:{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ؛ولقول الله تبارك وتعالى:{وبشرناه بإسحاق نبيًّا من الصالحين} [ الصافات:112] ،وقوله تعالى:{وبشروه بغلام عليم} [ الذاريات: 28] ،وقوله تعالى:{فبشرناه بغلام حليم} [ الصافات: 101]؛فالبشارة بما يسر الإنسان من سنن المرسلين .عليهم الصلاة والسلام ؛وهل من ذلك أن تبشره بمواسم العبادة ،كما لو أدرك رمضان ،فقلت: هنّاك الله بهذا الشهر ؟الجواب: نعم ؛وكذلك أيضاً لو أتم الصوم ،فقلت: هنّأك الله بهذا العيد ،وتقبل منك عبادتك وما أشبه ذلك ؛فإنه لا بأس به ،وقد كان من عادة السلف ..
. 2ومن فوائد الآية: أن الجنات لا تكون إلا لمن جمع هذين: الإيمان ،والعمل الصالح ..
فإن قال قائل: في القرآن الكريم ما يدل على أن الأوصاف أربعة: الإيمان ؛والعمل الصالح ؛والتواصي بالحق ؛والتواصي بالصبر ؟
فالجواب: أن التواصي بالحق ،والتواصي بالصبر من العمل الصالح ،لكن أحياناً يُذكر بعض أفراد العام لعلة من العلل ،وسبب من الأسباب ..
. 3ومنها: أن جزاء المؤمنين العاملين للصالحات أكبر بكثير مما عملوا ،وأعظم ؛لأنهم مهما آمنوا ،وعملوا فالعمر محدود ،وينتهي ؛لكن الجزاء لا ينتهي أبداً ؛هم مخلدون فيه أبد الآباد ؛كذلك أيضاً الأعمال التي يقدمونها قد يشوبها كسل ؛قد يشوبها تعب ؛قد يشوبها أشياء تنقصها ،لكن إذا منّ الله عليه ،فدخل الجنة فالنعيم كامل ..
. 4ومنها: أن الجنات أنواع ؛لقوله تعالى:{جنات}؛وقد دل على ذلك القرآن ،والسنة ؛فقال الله تعالى:{ولمن خاف مقام ربه جنتان} [ الرحمن: 46] ،ثم قال تعالى:{ومن دونهما جنتان} [ الرحمن: 62]؛وقال النبي صلى الله عليه وسلم"جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ؛وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما{[67]} "..
. 5ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بخلق هذه الأنهار بغير سبب معلوم ،بخلاف أنهار الدنيا ؛لأن أنهار الماء في الدنيا معروفة أسبابها ؛وليس في الدنيا أنهار من لبن ،ولا من عسل ،ولا من خمر ؛وقد جاء في الأثر{[68]} أنها أنهار تجري من غير أخدود .يعني لم يحفر لها حفر ،ولا يقام لها أعضاد تمنعها ؛بل النهر يجري ،ويتصرف فيه الإنسان بما شاء .يوجهه حيث شاء ؛قال ابن القيم رحمه الله في النونية: .
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان 6 .ومن فوائد الآية: أن من تمام نعيم أهل الجنة أنهم يؤتون بالرزق متشابهاً ؛وكلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل ؛وهذا من تمام النعيم ،والتلذذ بما يأكلون ..
. 7ومنها: إثبات الأزواج في الآخرة ،وأنه من كمال النعيم ؛وعلى هذا يكون جماع ،ولكن بدون الأذى الذي يحصل بجماع نساء الدنيا ؛ولهذا ليس في الجنة مَنِيّ ،ولا مَنِيَّة ؛والمنيّ الذي خلق في الدنيا إنما خُلق لبقاء النسل ؛لأن هذا المنيّ مشتمل على المادة التي يتكون منها الجنين ،فيخرج بإذن الله تعالى ولداً ؛لكن في الآخرة لا يحتاجون إلى ذلك ؛لأنه لا حاجة لبقاء النسل ؛إذ إن الموجودين سوف يبقون أبد الآبدين لا يفنى منهم أحد ؛ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم ،ويخدمهم ؛الوِلدان تطوف عليهم بأكواب ،وأباريق ،وكأس من معين ؛ثم هم لا يحتاجون إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها ؛بل الأمر فيها كما قال الله تعالى:{وجنى الجنتين دان} [ الرحمن: 54] ،وقال تعالى:{قطوفها دانية} [ الحاقة: 23]؛حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة ،فيحسّ أنه يشتهيها ،فيدنو منه الغصن حتى يأخذها ؛ولا تستغرب هذا ؛فنحن في الدنيا نشاهد أن الشيء يدنو من الشيء بغير سلطة محسوسة ؛وما في الآخرة أبلغ ،وأبلغ ..
. 8ومن فوائد الآية: أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد ؛لا يمكن أن تفنى ،ولا يمكن أن يفنى من فيها ؛وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة ..