لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال ، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله ، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء ، كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر ، أو عكسه ، أو حال السعداء ثم الأشقياء ، أو عكسه . وحاصله ذكر الشيء ومقابله . وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه ، كما سنوضحه إن شاء الله ؛ فلهذا قال تعالى:( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار ، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة ، ومعنى ( تجري من تحتها الأنهار ) أي:من تحت أشجارها وغرفها ، وقد جاء في الحديث:أن أنهارها تجري من غير أخدود ، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ، ولا منافاة بينهما ، وطينها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ، نسأل الله من فضله [ وكرمه] إنه هو البر الرحيم .
وقال ابن أبي حاتم:قرئ على الربيع بن سليمان:حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك .
وقال أيضا:حدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال:قال عبد الله:أنهار الجنة تفجر من جبل مسك .
وقوله تعالى:( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة:( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) قال:إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا إليها قالوا:هذا الذي رزقنا من قبل في [ دار] الدنيا .
وهكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ونصره ابن جرير .
وقال عكرمة:( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) قال:معناه:مثل الذي كان بالأمس ، وكذا قال الربيع بن أنس . وقال مجاهد:يقولون:ما أشبهه به .
قال ابن جرير:وقال آخرون:بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ؛ لشدة مشابهة بعضه بعضا ، لقوله تعالى:( وأتوا به متشابها ) قال سنيد بن داود:حدثنا شيخ من أهل المصيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال:يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء ، فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول:هذا الذي أوتينا به من قبل . فتقول الملائكة:كل ، فاللون واحد ، والطعم مختلف .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عامر بن يساف ، عن يحيى بن أبي كثير قال:عشب الجنة الزعفران ، وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة:هذا الذي أتيتمونا آنفا به ، فيقول لهم الولدان:كلوا ، فإن اللون واحد ، والطعم مختلف . وهو قول الله تعالى:( وأتوا به متشابها )
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية:( وأتوا به متشابها ) قال:يشبه بعضه بعضا ، ويختلف في الطعم .
وقال ابن أبي حاتم:وروي عن مجاهد ، والربيع بن أنس ، والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى:( وأتوا به متشابها ) يعني:في اللون والمرأى ، وليس يشتبه في الطعم .
وهذا اختيار ابن جرير .
وقال عكرمة:( وأتوا به متشابها ) قال:يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيب .
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ، وفي رواية:ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء . رواه ابن جرير ، من رواية الثوري ، وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش ، به .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله:( وأتوا به متشابها ) قال:يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا:التفاح بالتفاح ، والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة:هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، وأتوا به متشابها ، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم .
وقوله تعالى:( ولهم فيها أزواج مطهرة ) قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس:مطهرة من القذر والأذى .
وقال مجاهد:من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .
وقال قتادة:مطهرة من الأذى والمأثم . وفي رواية عنه:لا حيض ولا كلف . وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك .
وقال ابن جرير:حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال:المطهرة التي لا تحيض . قال:وكذلك خلقت حواء - عليها السلام - حتى عصت ، فلما عصت قال الله تعالى:إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة . وهذا غريب .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه:حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثني جعفر بن محمد بن حرب ، وأحمد بن محمد الجوري قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي ، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:( ولهم فيها أزواج مطهرة ) قال:من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق .
هذا حديث غريب . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، عن محمد بن يعقوب ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن محمد بن عبيد ، به ، وقال:صحيح على شرط الشيخين .
وهذا الذي ادعاه فيه نظر ؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي:لا يجوز الاحتجاج به .
قلت:والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم ، والله أعلم .
وقوله تعالى:( وهم فيها خالدون ) هذا هو تمام السعادة ، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء ، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ، والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه جواد كريم ، بر رحيم .