[ و قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم 244] هذه الآية الكريمة استئناف مترتب فيه الأمر الملزم بالقتال على القصة المشار إليها آنفا ، فإنه إذا كان الخروج من الديار حذر الموت يؤدي لا محالة إلى الموت ، فإنه من الواجب القتال في سبيل الله تعالى ورد الاعتداء ، وإذا كان الموت في القتال محتملا أو راجحا ، فالموت في الفرار والخروج من الديار حذر الموت لا محالة ، ولو خير العاقل بين موت احتمالي وفيه الفخار ، وموت مؤكد وفيه العار ، لاختار بلا ريب القتال .
و إن القتال في سبيل الله هو الحياة الكاملة ، فإن قتل في ذلك فقد رزق الشهادة ، وهي رزق يتنافس فيه المؤمنون ، ويطلبه المتقون ، وسبيل الله هي سبيل الحق ، فكل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو قتال في سبيل الله ، وكل قتال في سبيل الجماعة هو قتال في سبيل الله مادام القتال عادلا ، وقتال المرء دون عرضه هو قتال في سبيل الله ، وقتاله دون ماله هو في سبيل الله سبحانه{[347]} ، فكل قتال لدفع الظلم وإعلاء منار الحق هو من القتال في سبيل الله سبحانه ، ولقد قال الإمام مالك رضي الله عنه:( سبل الله كثيرة ) وكل طريق للوصول إلى الحق أو حمايته أو الدفاع عنه هي من سبل الله سبحانه وتعالى .
و الخطاب في الآية الكريمة:[ وقاتلوا في سبيل الله] للمسلمين أجمعين في كل الأجيال وفي كل العصور ، ولم يقل في هذه الآية كما قال في غيرها:[ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا . . .190] ( البقرة ) مع أن أصل القتال في الإسلام لدفع الاعتداء فقط ، لم يقل سبحانه وتعالى ذلك إلا للإشارة إلى أمرين:
أولهما:وجوب الاستعداد الدائم للقتال فإن حب الغلب في فطرة الإنسان ، وتوقع الاعتداء مع ذلك أمر لابد منه كما قال تعالى:[ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . .60] ( الأنفال ) ولا شيء يمنع الاعتداء أكثر من الاستعداد لدفع الاعتداء ، فلو كان للحمل ناب ما عدت عليه الذئاب ، ولو كان للظبي ظفر وناب ما افترسته أوابد الوحوش .
ثانيهما:القتال في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين ، وذلكحق على كل مسلم وإن لم يكن الاعتداء واقعا عليه ، فالقتال لدفع الظلم وإقامة الحق قتالا عادلا وهو قتال في سبيل الله سبحانه ، ولو لم يقع الاعتداء على شخص القاتل ؛ لأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . . .110]( آل عمران ) . ولقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول ، وقد كان عهدا بين المتحالفين أن ينصروا المظلوم على الظالم{[348]} .
و لقد عطف الله سبحانه وتعالى على الأمر بالقتال قوله تعالى:[ واعلموا أن الله سميع عليم] فهو أمر منه سبحانه بأن يتذكروا دائما أن الله سبحانه وتعالى سميع لكل أقوالهم التي ينطقون بها سواء أكانت تلك الأقوال تدل على رغبة في الجهاد وطلب للاستشهاد ، أم كانت هذه الأقوال مخذلة معيقة للمجاهدين الأبرار من مثل قول:[ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . .154]( آل عمران ) ومثل قول:[ ليس لك من الأمر شيء . . .128] ( آل عمران ) وإنه سيجازى كل واحد بقوله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
و كما أمرنا أن نتذكر دائما أنه سميع لنشعر برقابته على أقوالنا ، أمرنا بأن نتذكر بأنه عليم بخواطرنا وبالدوافع التي تدفعنا إلى القتال ، فهو يعلم الوساوس التي تلقي في النفس ضعفا يظهر على الشفاه ، وتعلنه الأفعال ، ويعلم البواعث التي تدفع إلى القتال أهي فخار ورغبة في دنيا يصيبها ، أم لتكون كلمة الله هي العليا ، و لرفع منار الحق ، وخفض الباطل . فإن كانت الأولى فقد ذهب ثوابه بما أصاب من دنيا قصدها ، وإن كانت الثانية فكل خطوة خطاها لها ثوابها ، وكل مقام شهده له أجره ، وإن ظفر بالشهادة فقد ظفر بغاية الغايات للمؤمن الصبور التقي الطاهر . والله سبحانه عليم بحال المقاتلين:اندفعوا في قتالهم إلى الاعتداء ، أم ساروا على الطريق المستقيم ، فلا اعتداء في قتال ، فلم يقتلوا غير مقاتل ، ولم يقاتلوا من لا يقاتل .
هذا هو الجهاد في الإسلام:دفاعا عن الذمار ، و طلبا للحياة الكريمة في الوغى حيث يحمى الوطيس ، ويكون الموت قد فغر فاه ، وحيث المنايا تعددت طرائقها . وإن المجاهد في الإسلام إنما يخط بسيفه نور الحق في وسط ظلمات الباطل ، وإن الجهاد لسبيل لإعلاء كلمة الله ، حيث يشتد الظلم ، ويستغلظ الظالمون ، ويريدون أن يلتهموا الأمم والجماعات ، ويبيدوا خضراءها ، فعندئذ يكون القتال في الإسلام ، ومن يفر منه حذر الموت فإنما يفر من العزة إلى الذلة ، ومن الحياة الكريمة إلى الموت ، ولذلك قال علي بن أبي طالب:( الجهاد باب من أبواب الجنة ) . وعند الله النصر المبين .